على الرغم من أن العلاقة بين الصحافة ووزارة الداخلية تشهد حالة من الشد والجذب بين الحين والآخر، لطبيعة عملهما، لكنها لم تشهد تصعيدًا فى تاريخها مثلما تشهده الآن، بعد واقعة دخول رجال الأمن نقابة الصحفيين، لإلقاء القبض على صحفى وناشط مطلوبين للعدالة، ونحن هنا لا نستدعى إلقاء الضوء مرة أخرى على هذه الواقعة، بقدر ما نريد أن نذكّر بها عن طبيعة العلاقة بين الطرفين، وما هو الشكل الذى ينبغى أن تقوم عليه هذه العلاقة، بما يكفل تحقيق رسالتيهما فى نقل الحقيقة للرأى العام من جانب، وحفظ الأمن وفرض القانون من الجانب الآخر.
من يصوّر العلاقة بين الصحافة ووزارة الداخلية على أنها «ندِّية» أو أنها تتقاطع ولا تتلاقى، فهو ينسف صميم «المهنية» لدى الطرفين، فالمنطق يقول إن الصحافة تحتاج إلى وزارة الداخلية بكل قطاعاتها، وكذلك فإن وزارة الداخلية بكل قطاعاتها أيضًا فى حاجة ملحة إلى الصحافة، وأنه فى توتر العلاقة بين الطرفين تصبح مصلحة الوطن العليا على الحافة، وهو ما يريده المتآمرون والمتربصون بمصر، لإحداث هذا الشرخ الكبير بين مؤسستين تساهمان بقوة فى حفظ الأمن والأمان والاستقرار وإعلاء دولة القانون.
ربما توترت العلاقة بين وزارة الداخلية والصحافة فى مصر بشكل لافت، قبل ثورة 25 يناير 2011، حيث ركزت الصحافة على قضايا التعذيب فى أقسام الشرطة فى عهد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى، وكان رد مباحث أمن الدولة حينذاك خشنا وعنيفا، إلا أنها بالتوازى مع ذلك كانت الصحافة تنشر سير الأبطال من رجال الشرطة الذين يسهرون لبسط الأمن، ومنهم من قضى نحبه وهو يدافع عن مؤسسات الدولة ويطارد المجرمين والإرهابيين والخارجين عن القانون، وهذا هو صميم عمل الصحافة، رصد التجاوزات، وكشف الحقائق للرأى العام، ودعم رجال الأمن الذين يقومون بواجبهم فى حماية الوطن ومؤسساته، وبالتالى حماية المواطن المصرى، وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
وعقب ثورة يناير وسقوط نظام مبارك، كانت الصحافة المصرية على رأس المؤسسات الداعمة لجهاز الشرطة ووزارة الداخلية، خاصة بعد حالة الانفلات التى سببها تأثر قطاعات الوزارة وانزواء دورها، فى ظل حالة «شحن جماعات الشر ومنابرها وفى القلب منها قناة الجزيرة»، ومن ثم كان للصحافة دور مهم جدًا فى عودة الروح المعنوية لرجال الشرطة للقيام بدورهم الطبيعى فى حفظ الأمن وتطبيق القانون، بعدما انفلت عقد الشارع المصرى، وانتشرت البلطجة والتحرش وسوء الأخلاق.
ولعل دولة مثل تونس، عاشت نفس الظروف التى عاشتها مصر، وأسقطت فيها ثورة الياسمين» نظام الرئيس التونسى زين العابدين بن على، لكنها كما كانت سباقة بما يعرف بـ»ثورات الربيع العربى»، كانت سباقة كذلك بمعالجة هذا الشرخ الذى أصاب العلاقة بين الإعلام والأمن، أو بين الصحافة ووزارة الداخلية، وأقرت وزارة الداخلية التونسية فى عام 2014 مشروع مدونة السلوك بمشاركة الهياكل الممثلة للمهنة الصحفية، حيث أكدت على أن العلاقة بين قوات الأمن الداخلى ووسائل الإعلام «دعامة أساسية فى ترسيخ البناء الديمقراطى».
وتضمن مشروع مدونة السلوك لأفراد المؤسسة الأمنية جملة من الإجراءات المُوجب اتباعها من قبل قوات الأمن أثناء تدخلاتها الميدانية، وذلك للحد من الاعتداءات ضد الصحفيين، ومن ذلك حجز أدوات عملهم، ومنعهم من التغطية الصحفية فى المظاهرات والاحتجاجات.
وأوصى مشروع مدونة السلوك- المنشور بالنشرة الإلكترونية لصحيفة الشروق التونسية- بجملة من الإجراءات «لتنظيم العمليّة التواصليّة التكامليّة بين منتسبى قوات الأمن الدّاخلى ومختلف ممثلى وسائل الإعلام أثناء أداء كلّ منهما لمهامهما الميدانيّة» وفقا لما جاء فى مشروع مدونة السلوك.
ونصّ مشروع مدونة السلوك التوجيهية لأفراد المؤسسة الأمنية على أنه يمكن للصحفى مرافقة الوحدات الأمنية ميدانيا، كما يمكن له حضور الاجتماع التحضيرى بمقرّ الوحدة قبل الانطلاق فى الدّورية، وأكد على ضرورة أن يحمل الصحفى ما يميزه عن بقية أفراد الدورية بما يضمن تخفيه أثناء المهمات ضمانا لسلامته.
وفيما يتعلق بكيفية التعامل بين الطرفين فى تغطية الأحداث الكبرى والمظاهرات والتجمّعات، ينص مشروع مدونة السلوك على أن «قوات الأمن الدّاخلى مسؤولة على حماية السّلامة الجسديّة للصحفيين، وتأمين معدّاتهم وتوجيههم».
كما نص على التزام القيادة الميدانية المكلّفة بالتعامل مع الصحفيين بتقديم المعلومات المناسبة بقصد مساعدة الصحفيين على القيام بواجبهم فى التغطيات الصحفية، ما لم تكن المعلومات المطلوبة لها مساس بجانب التحفظ وسريّة الأبحاث، أو المعطيات الشخصيّة للمواطنين.
وفى المقابل يجب على الصحفيين «الإعلام عن تواجدهم لدى قوات الأمن الدّاخلى فى إطار مباشرة مهامّهم»، وحمل الشارة المميّزة للصحفيين، والالتزام باحترام الإجراءات الأمنيّة المناسبة التى توختها القيادات الأمنية الميدانيّة، كما يستوجب على عون الأمن المكلف بمهام حفظ النظام أثناء التظاهر والتجمهر صيانة كرامة الصحفى والدفاع عن حقوقه الأساسية فى العمل الصّحفى.
بنظرة متأنية لمدونة السلوك التى أعدتها وزارة الداخلية التونسية، سنفهم أن العلاقة بين الصحافة ووزارة الداخلية متكاملة وليست متقاطعة، وأن الخلاص هو احترام القانون والمهنية من الطرفين، إذا كنا نريد فعلًا تحقيق دولة القانون التى يتحدث عنها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كل مناسبة، وفى ظل تأكيده على أنه لم ولن يسكت على فساد، حتى ولو كان هذا الفساد داخل مؤسسة الرئاسة، ولن يسمح بالمحسوبية، وضرب مثالًا بواقعة فساد داخل مؤسسة الرئاسة وجه بتحويل أبطالها للمحاكمة.
ثم إننا لابد أن نعترف بأن هناك تحديات مشتركة بين الصحافة والشرطة لمقاومة الجريمة المنظمة والإرهاب، فرجل الأمن منهك اليوم من تعدد المهام فى حفظ النظام وفى مجابهة الإرهاب، وهو ما يتطلب التفاف جميع فئات المجتمع المدنى وعلى رأسها الصحافة والإعلام لمواجهة هذا الخطر.
الخلاصة، أننا فى حاجة ماسة لتعزيز الشراكة بين الأجهزة الحكومية والإعلامية، خاصة الصحافة ووزارة الداخلية، وتطبيق نموذج مشابه لمدونة السلوك التونسية على المشهد المصرى.
نحن فى أمس الحاجة إلى تطوير الأداء الأمنى والإعلامى، حتى يحققا معًا الهدف المنشود، فالأمن مطالب بحماية رجل الشارع، ومقدرات الدولة والممتلكات الخاصة والعامة، وتطبيق القانون، ومكافحة الفساد والتهرب والإرهاب، وبالتالى تمكين الصحفيين من أداء عملهم دون مضايقات، وبما يتفق مع الدستور والقانون؛ والصحافة مطالبة كذلك بتحرى الدقة والبحث عن المعلومة الصحيحة، والإيمان الحقيقى بأنها وأجهزة الدولة فى معركة حقيقية ضد الإرهاب لبناء الوطن، كما أنها ليست فى صراع مع أجهزة الدولة، وأن دورها هو نقل الحقيقة بما لا يؤثر على الأمن القومى بمفهومه الشامل ودون تلوين، وكشف الفساد، ومساعدة مؤسسات الدولة فى مكافحته، فتلك رسالة الصحفيين النبيلة، وصلب عملهم الذى أقسموا عليه، يوم أن تشرفوا بالحصول على عضوية نقابة الصحفيين المصرية العريقة.
نحن فى حاجة إلى عقد منتدى لتنظيم العلاقة بين وزارة الداخلية والصحافة من جهة، وبين أجهزة الدولة ووسائل الإعلام من جهة أخرى، والخروج بتوصيات وآلية عمل تكفل مزيدا من التعاون والشفافية بين مختلف الأجهزة الرسمية والمؤسسات الإعلامية، فى إطار من الاحترام المتبادل لطبيعة عمل كل طرف، لتحقيق الهدف الأسمى والغاية الأعلى «رفعة مصر».
موضوعات متعلقة:
- ننشر ملامح التقرير النهائى للجنة "الإعلام" بالبرلمان بشأن أزمة "الصحفيين"