اهتزت مصر من أقصاها إلى أقصاها لحادث تعرية المرأة المصرية، وحق لها أن تهتز. وانتفضت كذلك من أقصاها إلى أقصاها، وحق لها أن تنتفض. فحادث تعرية امرأة مصرية، حادث جلل. من المؤكد أن هذا الحادث ليس الوحيد، وإنما قد يكون سبقه حوادث أخرى مماثلة، وربما تلحقه حوادث أخرى مماثلة. ولكن هذا الحادث ربما ـ قدراً ـ جرى دفعه إلى الواجهة، مصحوباً بزخم إعلامى غير مسبوق، وأحاطت به ظروف وملابسات دفعت به إلى سطح الأحداث، فأعطته حجمه الطبيعى. ومن هنا كان رد الفعل من الشعب المصرى على مستوى الحدث من ناحية، ومتوافقاً مع موروثاته القيمية من ناحية أخرى، بعيداً عن الدين كانحياز مجتمعى. وأنا وأنت ونحن جميعاً على ثقة من أن مقترفى هذه الجريمة، لو سئلوا عن مدى قبولهم لهذا التصرف لأمهاتهم أو لأخواتهم أو لعماتهم أو لخالاتهم، لكان موقفهم عدم الرضا أو القبول.
وقد أحزننى الحادث، وأحزننى أسلوب المعالجة. فما جرى من عمدة القرية، وتبعه فى ذلك باقى المسئولين، حتى محافظ المنيا، من إنكار التعرية، هو تبسيط مخل، أضر بالقضية أكثر مما نفعها ؛ لأنه فتح باب الشائعات على مصراعيه، وأظهر الدولة بمظهر الساكت المتستر، على خلاف الحقيقة. هم فعلوا ذلك وهم يتصورون أنهم يحسنون صنعاً، لأنهم تصوروا خطأً أن ذلك يصب فى خانة من يساعد الدولة. وما جرى من الكنيسة بشأن المسارعة بالتدخل فى الأمر، رغم أن له بعض الجوانب المضيئة من قبيل رفض الكنيسة تدخل الخارج فى المسألة بقصد استغلالها للإساءة إلى مصر، وكذا تطييب خواطر من جرى الاعتداء عليهم، واستصراخ الدولة بسرعة التدخل، إلا أن تدخلها ـ باعتبارها مصدراً دينياً ـ قد أضفى على المسألة طابعاً طائفياً، على خلاف الحقيقة. بل إن بعض رجالات الكنيسة قد أخذ الأمر فى هذا الاتجاه، باعتبار أن التطرف والتشدد الدينى يمثل خلفية الحادث. بل إن أحدهم قد ذهب إلى حد المطالبة بتغيير المناهج الأزهرية، باعتبارها مصدرا من مصادر التطرف والإرهاب والداعشية. وربما يكون كلامه فى بعض جوانبه له وجاهته، على ضوء المطالبة بذلك من جانب المسلمين، إلا أنه قد نسى أو تناسى، أن مجىء هذا الكلام من جانبه قد يثير الحفائظ أو الحساسيات، ويعطى فرصة تأجيج ذلك لمن يحمل فكراً متشدداً. وكلامه ليس له محل، خاصة فى ظل السعى الدؤوب لعلماء المسلمين للتخلص من الإرث الفقهى الذى نشأ وترعرع فى ظل ظروف مغايرة للظروف الراهنة، ولا تتواكب معها، بما لا يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامى. كما أن تحرك بيت العائلة ـ ويمثله مجموعة من علماء المسلمين، وكذا عدداً من القساوسة ـ قد جاء على خلفية وجود خلاف بين المسلمين والمسيحيين كعلة لوقوع الحادث وبسببه، الأمر الذى صبغ المسألة بصبغة طائفية كذلك، رغم أن الدولة تسعى جاهدة للتخلص من هذه الآفة، ونزع هذه الصبغة. وقد ساهم بعض رجال الإعلام فى ترسيخ فكرة الطائفية عن قصد أو دون قصد، بحسن نية أو بسوءها. وقد كنت أرى ـ وما زلت ـ نزع البعد الدينى عن القضايا الناشئة بين المسلمين والمسيحيين. وغل يد الأزهر والكنيسة عن التدخل فى هذه القضايا لأن تدخلهما يضفى على الأمر، شئنا أم أبينا، الطابع الدينى الذى تتولد عنه مشاعر لدى المواطنين فى الاتجاه الخطأ. وبدلاً من اللجوء إلى الدولة فى منازعاته مع المجتمع للفصل فيها، يلجأ إلى المسجد والكنيسة. وهكذا تحل المؤسسات الدينية محل الدولة فى أدوارها، وسكوت الدولة على هذا التوجه يعنى انسحاب الدولة، والتخلى عن أدوارها تجاه مواطنيها. ولذا فإن على الدولة ألا تتصرف تصرف من على رأسه بطحة، فهى حين تنحاز للمسيحى خشية اتهامها ـ داخلياً أو خارجياً ـ بالتمييز، تأتى على حق المسلم. وفى ذات الوقت حين تتعامل مع المسلم والمسيحى على اعتبار الدين فإنها ستنحاز للأغلبية.
وفى كلتا الحالتين يمكن القول بأريحية أن الدولة قد حادت عن الصواب. والصورة المثلى فى رأيى أن تتعامل الدولة مع أفراد المجتمع كمواطنين، وأن الجميع أمام القانون سواء. وحسن فعل الرئيس السيسى حين أمر بإحالة الأمر إلى القضاء، والتعامل مع الأمر بمقتضى القانون. ولا دور للأزهر أو الكنيسة فى المسألة.
محكمة - أرشيفية