ضاعت بالفعل هيبة الأستاذ الجامعى، ليس فقط عبر قرارات تهدد وجوده وفكره ورؤيته وحريته ولكن، وللأسف، عبر وجود نماذج من بعض الأساتذة الذين أساءوا لأنفسهم وواجبهم المقدس والعملية التعليمية برمتها نتيجة سوء التربية والحاجة وقلة الوازع الدينى وانعدام الضمير. فهناك من يحرر ويكتب رسائل للعرب لاهثا وراء الدولار وضاربا بعرض الحائط القيم والأخلاقيات والأعراف الجامعية، وهناك من يلهث وراء المرأة وقد يضحى بسمعته ووظيفته فى سبيلها ويقدم امتحانه قربانا لها، وهناك من يلهث وراء المناصب ويضحى بمواقفه ومحيطه وأقرانه سعيا إلى الرضا والترقى، وهناك من يصمت ويكتفى بالمراقبة السلبية اما عن ضعف أو تخاذل أو خوف أو رغبة فى تحقيق مصلحة ما.
كما تضيع هيبة الأستاذ الجامعى حينما يضع فى اعتباره تقييم الطالب عنه بصورة أكبر من العلم الذى يقدمه، وتضيع هيبة الأستاذ الجامعى حينما يخشى على نفسه من الشوشرة ويبحث عن صالحه الخاص، فيتجاوز عن الكثير وقد يتعدى الأصول والأعراف والأخلاقيات و القيم، وتضيع هيبة الأستاذ الجامعى عند كونه صارم شكليا وفارغ علميا وأجوف فكريا ! وتضيع هيبة مثل هذا الأستاذ فقط عند الطالب المحترم الواعى صاحب القدرة العقلية المتميزة التى تستطيع فرز الأستاذ الصالح من الطالح، وما أقلهم..!
وفى خضم هذه الإساءات، اختلط الحابل بالنابل، وانصهر الجميع فى ذات البوتقة، وأصبحت الرؤية الضبابية تعوق عملية الفرز السليم، بل أصبح مالك الدولار وبائع الامتحانات وصاحب المنصب هو الأكثر احتراما وتقديرا والأعلى صوتا ولو شكليا، وهمشت الفئة الصالحة الإيجابية النشطة جانبا، وهى تلك التى تستهدف التطوير الحقيقى، وتحديث العملية التعليمية والبحث العلمى، فضلا عن بناء عقليات رشيدة، والارتقاء بفكر الطالب وتنمية رؤيته النقدية.
بل وأصبح الطالب فى حد ذاته رافضا لعملية التطوير، ومستجيبا للفئة الأولى التى ينتمى اليها بعض الأساتذة، ومتقبلا باللا علم، واللا رؤية مقابل الدرجات التى توزع هنا وهناك دون وجه حق. وأصبح معيار تقييم الأستاذ الجامعى لدى فئة ليست بقليلة من الطلبة، ومع غياب ثقافة التقييم من الأساس، هو درجاته وضحكاته وقفشاته وحكاياته الشخصية داخل المحاضرات، وليس علمه واضافاته وأفكاره واسهاماته. وتحولت عملية تبسط الأستاذ مع طلابه، والشدة واللين فى حدود الدور التوجيهى الأبوى، إلى نوع من التجاوز والتعدى، وأصبح تأخر الطالب عن موعد محاضراته أمرا عاديا، وحصول الطالب على درجة مميزة أمرا مفروغا منه. وعلى المتضرر اللجوء لشبكات التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام واتحادات الطلبة للضغط على صناع القرار وتحقيق الاستجابة الفورية رغما عن ارتفاع معدلات عدم التيقن.. وافتقد الاحترام وضاعت الهيبة.
وقد شهدنا كأساتذة جامعيين وقائع عدة فى أعقاب ثورة يناير ٢٠١١، ومعظمها يشير إلى تغير المنظومة القيمية لدى قطاع الشباب بالتحديد. كما اختفت وبصورة جوهرية بعض أبعاد ثقافات السياق العالى التى تنتمى اليها مصر كدولة تقليدية، بخاصة فى بعد "احترام وتوقير الكبير". ويبدو أن الكبير فى المجال العام الجامعى قد ابتعد عن الأستاذ المسن والعالم والمفكر والمستقل وصاحب العطاء المتميز والرؤية الناقدة الفاحصة وصاحب الضمير والقيم والأخلاق، ليصبح مفهوم "الكبير" مقترنا بمانح الدرجة والمنصب، وصاحب النفوذ، ومالك الرصيد الأكبر من العلاقات الشخصية مع السلطة، وواهب الثواب والعقاب، ومحقق المصلحة حتى وان تعارضت مع القيم والصالح العام.
وتغيرت المعايير وانقلبت الموازين واستشرى الفساد، وانتشرت ظاهرة الكيل بمكيالين، ناهيك عن شيوع ظواهر ومفاهيم غريبة فى البيئة الجامعية مؤخرا مثل الانتقام والتفشى والتصيد. وأصبح الأستاذ الجامعى "المحترم" مستهدفا من جميع المستويات دون استثناء. وأتاحت وسائل الإعلام مجالا عاما للخلافات الثأرية بين الأساتذة جذبا للانتباه وتحقيقا لمنافع خاصة وبعيدا عن مفهوم الدور الحر والمسؤول، وتشوهت صورة المعلم والمربى الجامعي، وتاه الاحترام بين الأقران ومن فى دونهم.
للهيبة وحفظها أصول، وتعزيز كرامة عضو هيئة التدريس لا تقل أبدا عن دعم كرامة العاملين بالسلك القضائى أو العسكرى. ويستوجب الأمر تطبيق مفهوم الحوكمة الذاتية فى الجامعات أسوة بما يحدث فى المؤسسات القضائية والعسكرية، بحيث تتم إدارة الأزمات والمشكلات الجامعية التى لا تمس حقوق المجتمع العام، داخل الحرم الجامعى وأروقة الكليات الجامعية، ودون المساس بسمعة وشخوص وأسماء أعضاء الهيئة التدريسية، أو محاولة الظهور فى وسائل الإعلام ومغازلة صناع القرار على حساب كرامتهم وصورتهم والثقة بهم، وذلك حفظا لمكانة "الأستاذ الجامعي"وسنه وعطائه وظروفه بعد أعوام عدة من الكفاح والشقاء وتربية الأجيال.
وعلى الأستاذ الجامعى دور فى احترام ذاته وعلمه والآخرين، وعلى القائمين على المنظومة التعليمية مواكبة وإدارة التغيير بصورة صحيحة، وعلى صناع القرار أن يعوا جيدا العلاقة بين التعليم والتربية ودعم القيم ،وحفظ هيبة الأستاذ، وتحقيق التنمية المستدامة فى مصر.
الأستاذ بكلية الإعلام- جامعة القاهرة.
د. ثريا البدوى تكتب: عندما تضيع هيبة الأستاذ الجامعى
الثلاثاء، 14 يونيو 2016 06:00 م
د. ثريا البدوى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد العزيز
صدقت يا دكتورة
عدد الردود 0
بواسطة:
عمران الصنهاجي
صدقتي والله واين المفر
عدد الردود 0
بواسطة:
داحمد المتولي
كلكم صادقين طيب و المرتبات
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالهادى
سلمت يمناك
عدد الردود 0
بواسطة:
دكتور سعد علي السعيد
عرفنا كل شيء ونضع روؤسنا بالرمال
عدد الردود 0
بواسطة:
طارق
الي متي
عدد الردود 0
بواسطة:
ايمن
الانهيار
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد المصرى
مصر فى طريقها للتقدم باذن الله