قصة "عصا موسى" لـ"أحمد عبد العاطى" الفائز بمسابقة القصة بـ"أخبار الأدب"

الجمعة، 17 يونيو 2016 02:13 م
قصة "عصا موسى" لـ"أحمد عبد العاطى" الفائز بمسابقة القصة بـ"أخبار الأدب" أحمد عبد العاطى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ممددًا على ظهره كان، مُغمَض العينين، فاغرًا فاه، تصطخب السيارات بأبواقها الناقمة، فيما راح آخرون يخمدون النيران التى تشبثت بوريقات الشجرة الخضراء بجانبه والتهمتها، ولم يلحظوا عود الثقاب المُلقى بمحاذاة جذعِها. الجمع الذى احتشد حوله؛ حاولوا إفاقته، فذهبت محاولاتهم أدراج الرياح. واقترح أحدُهم أن يضربه بالعصا الملقاة بجانب الرجل الذى طرحه الحريق أرضًا؛ كنوع من العلاج؛ هاج الناس بدورهم وبدأوا يتقاذفون صاحب الاقتراح خارج كتلتهم المصمتة، المتجمهرة حول ذاك الذى رثت ملابسه، لا حول له ولا قوة.

وحينما غزلت خيوط الشمس المتلاحقة على وجهه ضوءًا كثيفًا على هيئة عروق تفلتتْ من بين الرؤوس، أخذ يتلوى كأصَلَة صحراوية، ربما رشفة الماء التى أفرغها أحدهم فى جوفه، أسعفته إلى حدٍ بعيد، وجعلت الحركة -وإن كانت متثاقلة– تدب فى جسده الأسمر النحيل مرة أخرى. لوى عنقه كأنه يستنكر هؤلاء الذين وقفوا سادّين عنه الهواء والضوء، وأكثرهم ذاك الصبى الذى وقف أمامه يراقبه بحذر.
- ما اسمك؟ سألته امرأة عجوز خلا فمها من النبت الأبيض.
- النبى موسى! أجاب الرجل.
لم تخِفُّ وتيرة الهمهمات المتصاعدة آنذاك، وربما لم يكفه هو نفسه أن وقْع ما قال ليس هينًا على الألباب، ولم يتوقف انصراف سيل الناس عنه، وهمهمة من تبقى منهم، إلا حينما فتح فمه ليسرد.
- لقد رأيت الله!
انطلق الضوء هذه المرة من أعين الواقفين، ولم تنطلق من عينى الصبى الصغير الذى تحاشى الجمع نحو سور الكوبرى المار فوق النهر.
وأكمل الرجل:
- جئت لأخلصكم
ذاع صيته، وخلال أيام قلائل سيعرف الصبى أن دائرة البشر حول الرجل النبى آخذة فى الاتساع كل يوم، يتحلقون للتبرك به وللاستماع إلى التعاليم التى ستنقذهم فى اليوم المعلوم. ذات ظهيرة أسرع الرجل كالمجنون يسد الكوبرى بمريديه وتابعيه، يفترشون الأرض بأغطية مرقعة حوافها، وحينما استتب لهم الأمر وتأكدوا ألا ذرة غبار ستثير جمعهم، هدأوا واستكانوا، واحتلوا الطريق، حتى الأسوار لم تسلم من تسلق بعضهم والنوم عليها أحيانًا. النهر تحتهم، وهم يستمعون إلى حديثه الذى رأوه أخّاذًا. اندفع الصبى فى لحظة مارقة، حتى هَدَته قدماه إلى وسط المجلس، إلى الرجل النبي، فصاح الصبى وشررٌ يحرق وجهه:
- يا رجل أنت خرافة، ستموت!
ضحك الرجل طويلًا، حتى رجعت رأسه إلى الوراء، يكشف عن أسنان ضرب فيها الاصفرار جذوره، ثم اقترب من أذن الصغير وأصدر فحيحًا هامسًا:
- أنا حقيقة والحقائق لا تموت يا ولد. فهمت؟
ثم رجع مرة أخرى، نحو الضحك المتقطع المرتجف، وطالعتْ الصغير نظرات الناس المكشرة عن أنيابها، وحينما أراد الرجل تهدئة الثورة التى حمى وطيسها حول ذلك الصغير، ألقى عصاه فى وجهه، وطمأن مواليه أن الحية التى ستدب فيها الروح فى تلك العصا، ستلتهمه.. تراجع الناس إلى الوراء، يترقبون فناء ذلك الصغير الذى أطلقوا عليه أصواتهم بالنفير:
- اقتلوا الكافر، اقتلوا الكافر!
يدبون الأرض بأقدامهم، وحينما تأخر انبلاج الحية، أقسم بعضهم أنهم رأوها تتحرك لتلتهم الولد إلا أن الرجل النبى أمسك بها قبل أن تصل إلى قدميه رأفةً به.
قال مناديًا فيهم، موجهًا حديثه نحو الصبى "بدلًا من ذلك، عقابك أن تمشى عاريًا فى المدينة لسبعة أيام"، وفى اليوم السابع لم يجدوا الصبى.
وقف الرجل ذات يوم على حجر كبير، يخطب فيهم، ويبلغهم أن اليوم هو اليوم الموعود، وألا خلاص لهم إلا باتباعه صوب النهر. بكى بعضهم شوقًا، وارتمى آخرون تحت قدميه، يلحسونهما بلسانهم، أما القلة المنزوية بعيدًا، أخذوا يرتعشون تحت وطأة البرد.
همَّ بالانطلاق –ممسكًا بعصاه- تجاه النهر الذى اشتد انجرافه ذلك الصباح، يتقدمهم كسرب مهاجر، ضرب النهر بعصاه، فلم تتفتق اليابسة، ظل قلقًا مدة ساعة كاملة، وحينما أصابه اليأس أمرهم: اتبعونى.
غاصت أقدام من تقدموا الصفوف أول الأمر فى النهر، وتراجع آخرون خائفون إلى الوراء، يقول لهم:
- ستهلكون ياحمقى!
ردوا:
- سننتظركم.
وحتى يتفادوا تعنيفه ولعناته أكملوا تبريراتهم:
سنمكث هنا حتى نُكمل الدعوة.
لم ينظر إليهم، وظلَّ يتقدم – هو- المندفعين نحو مصيرهم.. تجاه الخلاص.

الماء يغمر وسطهم.. الماء يغرق رؤوسهم.. الماء يبتلع أذرعهم.. أكفهم ظلت مثبتة طيلة دقيقتين كضفادع نافقةٍ فوق النهر، ثم اختفتْ تمامًا، وظلت عصاه تطفو بتمايل فوق سطح الماء الراكد.

بعد أيام، كان المشهد: عصاه مغروسة فى حديقة عامة، تنمو يومًا عن يوم، والناس ساجدين حولها، وكلما رأوها فى أحايين متقطعة، يجدوا أنها تنبت عصى ضئيلة، لم تنضج بعد، عصى كالعصا الأم. وظل الناس فى تلك البقعة المظلمة من العالم تراودهم الأحلام عن ذويهم من الغارقين، يصفون الجنة لهم ونعيمها، فيما ظل آخرون يقسمون طوال حياتهم أنهم رأوا ذلك الرجل النبي، ومَن حولَه، يعبرون النهر بسلام، إلى الضفة الأخرى.


موضوعات متعلقة..


- ننشر أسماء الفائزين فى مسابقة أخبار الأدب









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة