إنفجر صائحا ومهللاً، بينما يحتَّضِن الرجل بقوة ولهفة :-
يخرِب بيتك يا عادل.. إنت لِسَّه عايش.. إنت جيت إمته، وإزاى.. وعرفت إن أنا هنا إزاى..
عادل ضاحكاً :- طيب يا راجل يا بخيل إعزمنى على كوباية شاى.. ولَّا أحكى لك عملت إيه فى الــ ٢٥ سنة اللى عدت من آخر مرَّه شفتك فيها وإحنا واقفين على الباب.
دخل الإستاذ عادل وجلس على السرير إلى جوار عم سمير الذى لَّف ذراعه حول كتيفيه غير مُصَدِّق أنه سيرى صديقه العزيز الذى فارقه منذ ٢٥ عاماً مهاجراً إلى كندا مع زوجته وإنقطعت عنه أخباره.. ولكن أين هى زوجته ؟؟ ترى هل لديه أبناء ؟؟.. ولماذا لم يعود إلى مدينتهم.. حيث أهله وبيته ؟؟؟.. ويا لسخرية القدر الذى جمعهما مرَّة أخرى فى المدينة الكُبرَى بعيداً جداً عن مدينتهما التى عاشا فيها سنوات الطفولة والشباب..
عادل ضاحكاً :- فاكر يا سمير أيام ما كٌنَّا بنخطف الطواقى من فوق رؤوس الفلاحين اللى جايين سوق المركز..
سمير مبتسماً، وقد عاد بذاكرته لأربعين عاماً مَضَت :- إلَّا فاكر.. دا إحنا مَرَّة كُنَّا خلاص هنتمسِك وهناخد عَلقَّه ما أخدهاش حُمار فى مَطْلَع..
أعَّد إبراهيم كوب الشاى الثالثة للأستاذ عادل.. فأخذها منه عادل شاكراً وأعاد إشعال غليونة..
عادل :- وأدينا إتقابلنا تانى يا سمير بعد ٢٥ سنة غربة فى كندا.. خسرت فيها ٢٥ سنة من عُمرى..ومراتى الله يرحمها.. اللى إتوفت من سنة.. وإحنا مجبناش عيال.. وبقيت عايش وحيد قولت أرجع أعيش الكام السنة اللى فاضلين فى مصر..
سمير :- وانت عرفت إن أنا هنا إزاى.. ؟؟
عادل :- الحقيقة أنا جيت هنا بالصدفة.. ولما إتكلمت شوية مع مسئول الدار.. الأستاذ رجاء.. وقُلت له أنا أصلاً مِن إِين.. لقيته نَزَّل كوباية الشاى من على بُقُّه من غير ما ياخد منها حَتَّى شَفطَّه.. وهَتَف وقال :-
إنت بلديات عم سمير الكهربائى..
قُلت له :- سمير الكهربائى مين ؟؟
- قال لى إسمك بالكامل.. ساعتها مُصَدَّقتش الصدفة اللى خَلِّتنا نتقابل هنا مش فى مدينتنا اللى كل يوم كُنَّا لازم نِلِفها شارع شارع.. وحاره حاره..
سمير :- والله زمان يا عادل..
عادل :- خلاص يا سمير.. بقى بينًّا وبين زمان ربع قرن.. خمسة وعشرين سنة عدت فى لمح البصر.. كأننا سيبنا بعض إمبارح..
وبِظهور الأستاذ عادل إكتمل مُثلَّث الضحك.. وأصبح ثلاثتهم يلتقون يومياً بعد عودة عم سمير من عمله مع غروب الشمس إلى ساعة متأخرة من الليل يلعبون الدومينو و"يجترون" ذكرياتهم بين دخان السجائر ودخان الغليون وأكواب الشاى، ويتعالى صوتهم بالضحكات العالية.. من قلوب صافية.. لا تعرف الحقد والكراهية.. ولِمَا والدنيا فانية.. والحياة كالغانيَة.. يوم تكون حانيَة.. ويوم تكون قاسيَة..
أستمروا على هذا الوضع ما يقرب من أربعة أشهر.. إلى أن إفترق ثلاثتهم.. فعم سمير إنتقل إلى موقع للشركة بالإسماعيلية.. والأستاذ عادل إنتقل إلى أحد الشقق المؤجرة بحدائق حلوان.. وبقى إبراهيم بالدار.. ومرت أيام وشهور وسنين.. وإبراهيم لم يسمع عنهما خبراً.. كيف سارت بهما الحياة؟؟ وإلى أى شاطئ قد رست مركبيهما ؟؟ نزلت على خَدِّيه دمعة حنين.. وهو يدعوا لهما بالرحمة سواء كانا من الأحياء.. أم أنهما قد رحلا مع الراحلين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة