هل يمكن للمسلمة أن تتزوج من مسيحى؟ بمجرد أن تطرح السؤال ستجد الإجابة حاسمة، لا يجوز. فى حين إن طرحت السؤال معكوسًا ستنقلب الإحابة «يجوز».. زواج المسلمة من مسيحى تحديدًا فى مصر يثير مشكلات طائفية، شهدتها مصر مؤخرًا.
ومع كل حادث زواج مختلط، مسلمة ومسيحى، تنشب المعارك ويتدخل فيها أقارب الفتاة وغيرهم، أى شخص حينها يشارك فى حالة الغضب ويؤججها، وربما اشترك وتظاهر تحت لافتة "عايز أختى".
بداية الزواج قرار شخصى يخص طرفين فقط، رجل وامرأة، ومسألة إنسانية فى المقام الأول، لكن المجتمعات الرجعية تجعل الدين طرفًا فيها، سواء من خلال الكنيسة أو دار الإفتاء، وغالبًا ما يتسبب تدخل المؤسسات الدينية فى شقاء وتعاسة "الأسر" على خلاف الدور المنوط بها.
المواطنة هى الحل.. والولاء للوطن أولًا
وفى رأينا، لا سبيل للخلاص من المشكلة الطائفية سوى نشر ثقافة المواطنة من جهة، وتحويل مفاهيمها لممارسات واقعية ملموسة، والدفاع عن "المدنية" التى تسمح بإقرار الزواج المدنى لكافة الأطراف مسلمين/ات ومسيحيين/ات، وإلزام المؤسسات الدينية الرسمية بالاعتراف به بقوة القانون، وبالطبع إسقاط التبعات المترتبة على رفض الكنيسة والأزهر للزواج المدنى، وهى تبعات فى أقلها "صعوبات عظيمة"، تضع الإنسان أمام خيارين أحلاهما علقم؛ فإما أن يكون متزمتًا أصوليًا لا يجادل ولا يناقش، أو يخرج عن ملته تمامًا.
إن السلم الاجتماعى هدف نبيل، وضرورة للتعايش، يمكن الوصول إليه دون أن تكون التكلفة سلب حرية الناس الاجتماعية والعقائدية، مؤكدين أن الشرائع والقوانين واللوائح إنما شُرعت وسُننت لخدمة البشرية، وإسعادها، وتسيير مصالحها، لا لتعذيبها والوقوف ضد مصلحة الناس. ويكتسب أى تشريع أهميته وفاعليته "وسلطته" من تحقيقه لمصالح البشر، وبالمثل يُبطل أى تشريع، طالما لم يحقق سعادة الإنسان أو يقف عائقًا ضد تحقيقها.
نؤكد أن خضوع المؤسسات الدينية والمواطنين لسلطة القانون وتنفيذ أحكامه يحقق سيادة الدولة ونفاذ القانون من ناحية، ومن ناحية ثانية يحمى المجتمع من التشتت والتمزيق والانزلاق والدخول فى مسار شقاء أبنائه، ويحفظ الاتزان والاستقرار. ناهيك عن أن إقرار الدولة المدنية الحديثة يعنى تفكيك الولاءات الصغيرة، وخضوع الجميع "طواعية تحت لواء ولاءات أكبر كالولاء للوطن.
وتفاديًا لاستهلاك الوقت واستنزاف المجهود، نقفز على مناقشة زواج المسلم من مسيحية، ونتساءل لماذا لا يجوز العكس؟ وقبل أن نطرح رؤية الأصوليين للنقاش، نؤكد أن الأصوليين المسيحيين يعترضون أيضًا على زواج المرأة من غير دينها- وتجيز للرجل ذلك!!- ولا يعترفون به ويصفه بـ"الزنا"، المترتب عليه إخراج من تفعل ذلك من المسيحية، وطردها من نعيم الملكوت. ويذهب الخطاب الأرثوذوكسى –تحديدًا- إلى أبعد من ذلك، حيث يرفض أيضًا زواج الأرثوذوكسية من الكاثوليكى أو البروتستانتى، بينما يقبل على مضض زواج الأرثوذوكى من غير الملة.
أسانيد التراث الفقهى الرافض لزواج المسلمة من المسيحى
بالرجوع إلى التراث الفقهى، نقرأ أن أغلب الإجابات والفتاوى التى تمنع زواج المسلمة من المسيحى، لا تعتمد على نصوص دينية/ قرآن أو سُنة نبوية، بقدر اعتمادها على توضيح مقاصد المنع، وملخصها عدم اعتراف المسيحية بالإسلام كدين سماوى، وإمكانية فرض سيطرة الرجل المسيحى على زوجته المسلمة، والمشكلة الأبرز ديانة الأبناء. كل هذه المقاصد تفترض بالأساس انتفاء إرادة المرأة، وانحصار دورها فى التبعية، ناهيك عن اعتبار الدين هنا مسألة غير شخصية تخص الفرد وحده.
• إذن أين الدليل؟
- لا دليل قرآني صريح أو نبوى على عدم جواز زواج المسلمة من المسيحى.
ينطلق الفقهاء فى دراسة الأمور من قاعدة ثابتة وهى الأصل فى الشىء الإباحة، وأنه لا تحريم أو منع إلا بنص. أى طالما لا يوجد نص صريح بالمنع أو التحريم فالإباحة قاعدة. وفى السُنة النبوية لا نجد أحاديث تنظم عملية زواج المسلمة من غير المسلم أو العكس.
وبالنسبة للقرآن، لدينا موضعان يتحدثان عن الزواج من أصحاب الدين المغاير.. الأولى الآية 5 من سورة المائدة "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ"، وهى تبيح زواج الرجل من الكتابية أى المسيحية أو اليهودية، ولا تتحدث عن تحريم زواج المسلمة نهائيًا.
أمّا الآية الثانية 221 من سورة البقرة "وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى? يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى? يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ".. فالآية تقول صراحة المشركين وليس الكتابيين.. بالرجوع إلى التفاسير سنجد أنها جميعًا توضح أن المشرك/ة المقصود هو الوثني/ة أى من غير أتباع الأديان السماوية، أى شخص خلاف المسيحى أو اليهودي، ومع إقرار المفسرين بأن المقصود هو الوثنى، إلا أنهم يحرمون زواج المسلمة من المسيحي!! فالإمام الشافعى مثلًا يقول عن الآية "نزلت فى تحريم نساء المسلمين على المشركين من مشركى أهل الأوثان"، ومع ذلك يستدرك "فالمسلمات محرمات على المشركين منهم بالقرآن بكل حال، وعلى أهل الكتاب لقطع الولاية بين المسلمين"!! دون أن يقول لنا ما الدليل القرآنى على هذه الفتوى، ودون أن يفسر التناقض البين فى خطابه بين القول بأن الآية نزلت لتحرم المشركين على المسلمات ثم يُحرم هو بنفسه زواج المسلمة من أهل الكتاب.
إذن الأدلة التى يستند عليها الفقهاء ليست نصية، قرآنية، بل هى مجرد أراء واجتهادات والغريب أنها مخالفة لنص القرآن نفسه، أو على الأقل متزايدة عليه.. أمَا مسألة "القوامة" وعدم جواز قوامة غير المسلم على المسلمة، فإنها تستند بالأساس إلى جملة ختام الآية 141 من سورة النساء "وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"، ويحاول الفقهاء أن يربطوا هذه الآية بزواج المسلمة! وهى عملية تفسير حرفى للقرآن.. الحقيقة أن الفقهاء نزعوا الآية، ولوا عنقها بشكل خطير جدًا، وبقراءة الآية كاملة "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"، الآية بالأساس نزلت فيما أسماهم القرآن بمنافقى المدينة، يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، ويحاولون إثارة الفتن، فيأتى الله ليعد أتباعه بالنصر، أى أن عبارة "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، وعد إلهى، وإقرار ربانى بنصر المؤمنين، كحتمية انتصار الخير فى النهاية.
ما سبق ليس رأى فحسب، ولا محاولة للتحليل اللغوى، لكن روى ابن جريج عن عطاء الخراسانى عن ابن عباس أن "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) قال: ذاك يوم القيامة. كذا روى السدى عن أبى مالك الأشجعى: يعنى يوم القيامة.. الانتصار الأخير.. فيما رأى أخرون أن الآية معناها لن يكون للكافرين على المؤمنين "حجة"، مثلما ذهب السدى. ولا علاقة للآية بزواج المسلمة من قريب أو بعيد.
الإشكالية الأخيرة، تتمثل فى التناقض الفقهى الذى يكشف عن نزعات ذكورية، فالفقهاء يعتبرون المسيحيين واليهود "أهل كتاب" حال زواج المسلم من امرأة تدين بالمسيحية أو اليهودية، وفجأة يتحول أهل الكتاب إلى مشركين حال أن قررت المسلمة أن تمارس حقها الإنسانى، السؤال الذى يفضح التناقض: هل المسيحيون واليهود مشركون أم أهل كتاب؟ فلو كانوا مشركين كيف نجيز زواج الرجل من نسائهم والقرآن يُحرم ذلك!!!
موضوعات متعلقة..
- فتاوى تحريم بناء الكنائس والمعابد "خرافة".. الإمام أبو حنيفة أجاز بناءها.. والليث المصرى يجرم الاعتداء عليها: عدوان على مساجد يرفع فيها اسم الله.. والإفتاء: لا يوجد أى نص يمنع تشييدها أو ترميمها