الزينات تُعلَّق، والبيت فى حالة استعداد لحفل فى المساء، وأستيقظُ من نومى مبكرا، وأنا سعيدة , بعد أن نمت هذه الليلة أحتضن فستان عيد ميلادى، وحذائى الذى لابد أن يتناسق مع الفستان، والذى نكون قد أمضينا –أنا وأمى وجدتي- أيامًا قبل هذا اليوم لتجهيزه وإعداده، وتخرج الجدة سعيدة -وكثيرا ما تصطحبني- حتى تشترى متطلبات الحفل من الحلوى "التورتة والجاتوه" وغير ذلك, ولا يفوتها فى كل عام أن تشترى نوعا لا يتغير من الفاكهة التى يجب أن تكون على مائدة حفلة الميلاد, وتوصى بعمل الخبز الخاص بهذا الحفل. والذى تكون قد أعدت ما يوضع فيه من لحم قد صنع بطريقة خاصة, هكذا كان الاحتفال السنوى بيوم ميلادى أو عيد ميلادي, ولا يفوت جدتى -رحمها الله- أن تدعو الأهل والجيران.
كنت ألمح كلَّ هذا فى طفولتى وأطير فرحا به, واستعد له، وانتظره العام بعد العام، وأحسب له الأيام انتظره دون أن يثير بداخلى إلا السعادة.. إنها براءة الطفولة التى تجعلنا نسعد بالهدايا والحلوى والاحتفال والقبلات، والتهنئة والتدليل والزينات, وسرعان ما تنقضى الأيام البريئة.. تلك الأيام الخوالى.. حاملة معها لهو الأطفال, وبراءة الصغار، وتتغير أسباب السعادة فى خضم وزخم أحداث الحياة , يمر بنا يوم الميلاد لنعيش على ذكرى ما فات ويكون الاحتفال عابرًا، لا يحمل نسمات براءة الطفولة وخلو البال, ونسعد بالمقربين منا الذين لا ينسونا فى هذا اليوم, وعندما نركن لأنفسنا ونتأمل؛ نجد أن السنين تمر دون أن نحسب لها حسابا، أو نضع لها ميزانا، أو حتى نشعر بها؛ فهى خبيثة التسلل، لا نشعر بوقْعِها على أعمارنا، إلا بعد حين, لنقف أمام قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسئولون ". هنا أتذكر يوم الميلاد، والسعادة به فى طفولتي, لأجد أننى الآن أخشاه!! نعم أخشاه لأنه محسوب علىَّ.. عام مضى.. هل هو حجة لى أم حجة علىَّ ؟ وعام أستقبله لا أدرى ماذا أُقدم فيه, وهل ُأمنح من العمرأيامًا أوأعوامًا لأبذل فيه المزيد؟ إنه السباق.. والسباق صعب !! لم يعد يوم الميلاد - رغم تهانى الأحباب والأصحاب– يوم السعادة بلا حساب , تغيرت مع السنين الرؤى، واختلفت مع العمر فلسفة يوم الميلاد.. فلم يَعُد يستهوينى الحفل والاحتفال.. لم تَعُد تُسعدنى التورتة والشموع, ولكنها وقفة مع النفس.. ماذا قدمتُ؟ ماذا قدمت لدينى.. لأسرتى وأولادى.. ماذا قدمتُ لبلدى ومجتمعي؟ ماذا أضفتُ لهذه الحياة ؟ ماذا بين الميلاد والرحيل مرورا بيوم الميلاد؟ بل أيام الميلاد التى تتكرر كل عام.
إن الإنسان الذى يحيا ويموت دون أن يقدم خيرا, دون أن يُحدث رجةً فى الماء الراكد، هو عالة على هذه الحياة، تلفظه قبل أن يلفظ أنفاسه.. إن السنوات التى تمر هى خَصْمٌ حقيقى لرصيدك فى الحياة, كل ذكرى ميلاد هو نقصان من مخزون عمرك.. هو سباق لتقدم الكثير فى وقت قصير مهما طال.
إن الاحتفال الحق فى ميزان الإنسانية.. هو احتفال بإنجاز نقدمه, بعمل نتقنه, بطاعة لله , برفق بالآخر, إن العمر الذى يحياه الإنسان.. هو تلك الدقائق أوالساعات التى يَنسِجُ فيها خيرًا للبشرية , ويُحدِثُ إضافة حقيقية تثمن ما بين ميلاده ورحيله، هكذا نفرح وهكذا نحتفل..نحتفل لا بسنواتٍ تمر؛ بل بما تحويه هذه السنوات من نفع وإيثار وبذل.. نحتفل لا بشموعٍ تُشْعَل؛ بل بحياةٍ تضئ للآخرين دروبهم.. نحتفل إن كنا فى زُمرة من قال عنهم رب العزة:
"قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين".
عدد الردود 0
بواسطة:
Mahmoud Abomeya
رؤية
رؤية من منظور إسلامي جاد ... رؤية تغيب عن الأغلبية الساحقة تحت مطارق التغريب واللا انتماء ... وهي تحمل في ثناياها الواقعية والتواضع ...