«كنت فى زيارة إلى البحرين منذ سبع سنوات، فإذا بهم يحكون لى كيف أن العمال البحرينيين قد رقدوا بأجسادهم على ممر هبوط الطائرات فى القاعدة البريطانية هناك، حتى لا تقلع الطائرات المعتدية وتضرب مصر أثناء العدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» بدءا من يوم 30 أكتوبر عام 1956، وأحضروا لى قصاصات الجرائد التى تسجل هذا الحدث».
هكذا تروى الدكتورة هدى جمال عبدالناصر فى الجزء الثالث من «جمال عبدالناصر - الأوراق الخاصة» عن «مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة» جانبًا مما كان عليه الوضع العربى أثناء العدوان الثلاثى على مصر، وإذا كان هذا الموقف حدث وقت العدوان، فإن شرارته الأولى بدأت مع قرار عبدالناصر لتأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956 والذى هز العالم بأسره وقتها، وساهم فى تغيير خريطة العالم فى النصف الثانى من القرن العشرين.
أحدث قرار التأميم دويا هائلا فى العالم العربى، وكان العمال العرب فى قلب الحدث بقوة، ففى مثل هذا اليوم «15 أغسطس 1956» عقد الاتحاد العام لنقابات العمال العرب اجتماعه فى القاهرة لمناقشة القضية، وطبقا لكتاب «ثورة يوليو والمشرق العربى 1952 - 1956» للدكتور عبدالله فوزى الجناينى عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة»، فإنه فور انتهاء الاجتماع أرسل «الاتحاد»، برقية تهنئة إلى الحكومة المصرية، تضمنت القرارات التى اتخذها المؤتمرون، وهى:
أولاً: منع عمال البترول فى كل البلدان العربية تسرب نقطة من البترول العربى أو مستخرجاته خارج حدود الوطن العربى بكل الوسائل ولو أدى ذلك إلى نسف وتدمير كل أنابيب البترول، وكل الآلات والمنشآت فى حالة وقوع أى اعتداء على مصر.
ثانياً: مقاطعة شحن وتفريغ وتموين سفن وطائرات الدول، التى تعتدى على مصر، أو تؤيد العدوان عليها.
ثالثاً: تدمير كل المطارات والمنشآت الحربية والأجنبية فى الوطن العربى للحيلولة دون استخدامها فى العدوان على مصر.
رابعاً: دعوة جميع العمال العرب للتطوع فى جيش التحرير الوطنى لرد أى عدوان يقع على مصر.
خامساً: مطالبة الحكومات العربية بتجميد أموال وممتلكات الدول، التى جمدت أموال وممتلكات مصر، وكذلك سحب جميع أموالها وأرصدتها من مصارف تلك الدول.
سادساً: إعلان الإضراب العام فى جميع الاتحادات النقابية فى يوم 16 أغسطس لمؤازرة مصر فى موقفها، واحتجاجها على عقد مؤتمر لندن.
انعقد مؤتمر لندن يوم 16 أغسطس واقترح تدويل القناة بتشكيل مجلس إدارة دولى لها، الأمر الذى رفضته مصر، وبقدر ما اتجهت أنظار العالم متجهة إلى المؤتمر، اتجهت أيضًا إلى ما إذا كانت الدعوة للإضراب ستنجح أم لا؟، وحسب ما يكتبه جمال عبدالناصر بخط يده، ويأتى فى الجزء الثالث من أوراقه: فى 16 أغسطس أعلنت الأمة العربية عن وحدتها، من المحيط الأطلسى إلى الخليج العربى، فقد أيدت مصر فى كفاحها من أجل المحافظة على حقوقها فى قناة السويس، وأضرب العرب فى جميع البلاد العربية، وكان وقع هذه الأنباء على «إيدن» رئيس وزراء بريطانيا وقع الصعقة، فقد كانت تقارير وزارة الخارجية البريطانية تقول: «إن الشعب المصرى لا يؤيد عبدالناصر، فظهر أن العرب جميعا يؤيدون عبدالناصر، قادة العرب وشعوب العرب».
مضى شكل الإضراب على نحو قومى عظيم، ويرصد «عبدالله فوزى الجناينى» الوضع فى بلاد المشرق العربى، ففى العراق وبالرغم من محاولات السلطات منع الإضراب إلا أن الدعوة إليه نجحت، وعم الإضراب كل مرافق بغداد، فأغلقت أكثر من 95 ٪ من المحال التجارية أبوابها، فيما عدا المقاهى العامة والمطاعم، وفى مساء اليوم ذاته نظمت مظاهرة سلمية ببغداد هتفت بحياة عبدالناصر ووحدة العرب، وأطلق البوليس النيران عليها، وقبضوا على عدد منهم، وفى الأردن شهدت البلاد إضرابا عاما، وأغلقت الحوانيت والمصانع والبنوك والمصالح الحكومية، وانقطعت المواصلات البرية بين المدن، وفى سوريا أغلقت جميع المحال وتوقفت جميع المصانع والشركات والمؤسسات الحكومية والأهلية عن العمل، وتوقفت جميع الموانئ والمطارات، وفى لبنان تقدم عبدالله اليافى، رئيس وزراء لبنان مظاهرات واحتجاجات اللبنانيين، وعم الإضراب جميع مظاهر الحياة فى لبنان.