رفع ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا، عينيه فجأة، فلمح المدينة المقدسة عن بعد، ثم حجب بذراعه المدينة عن عينيه، وحسب محمد صبيح فى كتابه «مواقف حاسمة فى تاريخ القومية العربية»: «بكى تضرعًا إلى الله وهو يدعو: أتوسل إليك يا رباه، ألا ترينى مدينتك المقدسة إذا لم أخلصها من أعدائك»، وعلى الضفة المقابلة كان صلاح الدين الأيوبى يصلى ويتضرع ويحشد قواته فى مواجهة القوات الصليبية الساعية إلى السيطرة على بيت المقدس.
بكى «ريتشارد» وقت أن كان على رأس قيادة الحملة الصليبية الثالثة على الشام 1189، وبعد أقل من مائة عام على الحملة الصليبية الأولى التى بدأت فور نداء البابا أربان الثانى إلى ممالك غرب أوروبا عام 1095: «تقدموا إلى البيت المقدس، انتزعوا إلى الأرض الطاهرة، واحفظوها لأنفسكم فهى تدر سمنًا وعسلًا، إنكم إذا انتصرتم على عدوكم وورثتم ممالك الشرق، وإذا خذلتم فستقضون حيث مات يسوع، فتخلدون فى النعيم الدائم، اذهبوا إلى القتال، وسنرتب أموركم وأموالكم فى غيابكم، سأغفر لكم ذنوبكم وخطاياكم بالقوة التى زودنى بها الله».
لم تمض سنة 1809 حسب محمد صبيح حتى كان الصليبيون قد اكتسحوا المسلمين أمامهم، وامتلكوا منهم الرها، وأنطاكية، وحصونًا عديدة، وفى 15 يوليو 1099 فتحوا أبواب أورشليم، وسرى فى أعصابهم جنون الانتصار، وانتابتهم حمى الفرح، وأخذت سيوفهم ترتفع وتهوى، وتنسحب وتندفع تاركة دماء المسلمين تجرى، وجثثهم تهوى، وحشرجات الموت تؤلف صوتًا رهيبًا، وأسس الصليبيون من القدس والبلاد المجاورة لها مملكة لاتينية مقرها القدس.
فى 4 يوليو 1187 حقق «صلاح الدين» انتصاره فى «حطين»، وانتشر المسلمون فى أنحاء فلسطين، يحاصرون البلاد والحصون التى فى حوزة الصليبيين، وارتفعت الأعلام العربية على أسوار مدينة القدس، وأزيلت من المسجد الأقصى الآثار المسيحية.
بقى للصليبيين مدينة «صور» وبضعة حصون، ومن «صور» خرج جيش للصليبيين وذهب إلى عكا ليحاصرها، بدءًا من يوم 28 أغسطس سنة 1189 واستمر الحصار، وحسب «صبيح» فإن المسلمين لاقوا الشدائد من جراء ذلك الحصار الذى طال وطال دون أن تظهر له نهاية، ولكن النهاية قربت عندما وصل «ريتشارد»، ملك إنجلترا، إلى عكا يوم 8 يوني 1091، وبمجرد وصوله طلب أن يجتمع فى مقابلة خاصة مع «صلاح الدين» الذى سمع عن شجاعته وعظمته، لكن «صلاح الدين» رفض قائلاً: «إن الملوك لا يجتمعون إلا عن قاعدة، ولا يحسن منهم الاجتماع وقت الحرب فى مقابلة ودية، قبل أن تقرر القاعدة».
من جولة إلى أخرى استمرت المناوشات بين الطرفين، مرة بالحرب، وأخرى بالمفاوضات، ويقول «صبيح»: توالت الإمدادات لجيش «صلاح الدين» من مصر والموصل وشمال سوريا، وجاءت الأنباء من إنجلترا إلى الملك «ريتشارد» تعلن أن أخاه يعمل لاغتصاب الملك منه، ومرض «ريتشارد» مرضًا شديدًا، وإزاء ذلك كله كان لا مناص من الصلح، واشتهى الفواكه المثلجة، فأخذ «صلاح الدين» يرسل إليه بانتظام الكمثرى والخوخ والثلج الذى يؤتى به من أعالى الجبال، وفى مثل هذا اليوم «2 سبتمبر 1192» تم التوقيع على «معاهدة الرملة» لتظل نافذة ثلاث سنوات، ومن شروطها أن تبقى البلاد التى فتحها «ريتشارد» من عكا إلى يافا فى أيدى الإفرنج، وأن يسمح للحجاج الفرنج بدخول بيت المقدس، وللعرب أن يدخلوا ما شاءوا من بلاد الإفرنج، ولهؤلاء أن يدخلوا بلاد العرب.
يصف «صبيح» يوم التوقيع على «صلح الرملة»: «كان يومًا مشهودًا غشى الناس من الطرفين فيه الفرح والسرور، وذهب المسلمون إلى يافا فى طلب التجارة، وفتحت القدس أبوابها للحجاج الأجانب، ولم يكن للعرب قبل حطين شبر واحد من الأرض غربى الأردن، أما بعد صلح الرملة فأصبحت الأرض كلها ملكهم، إلا رقعة صغيرة عند الساحل من صور إلى عكا».
كان «صلح الرملة» هو آخر عمل قام به «صلاح الدين»، وينقل محمد صبيح عن بهاء الدين ابن شداد، أمين سر صلاح الدين، فى كتابه «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية»: «أمر المنادى ينادى فى الوطاقات «المعسكرات» والأسواق، أن الصلح قد انتظم فى سائر بلادهم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل فى بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فليفعل».