- التسريبات.. مشروعة حين تكون فى صالح «تجار الثورات».. ومرفوضة حين تفضحهم
واحدة من أبرز الظواهر فى سنوات ما بعد ثورة 25 يناير، هى التسجيلات المسربة، أو ما عرف إعلاميا وعلى مواقع التواصل الاجتماعى بالتسريبات التى ارتبطت كثيرا بأسماء عدد من النشطاء وقيادات الإخوان، مع ظهور بعض التسريبات الخاصة بمسؤولين فى الدولة خلال الحكومات المختلفة عقب يناير2011، اللافت فى الأمر أن ظهور التسريبات بدأ كلعبة إخوانية، لنشر الفوضى فى شوارع مصر، واستخدامها كسلاح فى معارك مختلفة كانت تهدف إلى سيطرة الإخوان على مفاصل الدولة المصرية، فى المقابل كان النشطاء يثيرون الكثير من الجلبة بسبب التسريبات، التى تخص عددا من النشطاء، وكشفت عن نشاط عدائى ضد الدولة وفضائح تخص التمويلات، اللافت للنظر أن العديد من هذه المكالمات المسربة أو التسجيلات المسربة ارتبط ظهورها بفترة ما قبل 25 يناير بهدف نشر الفوضى والتحريض على الدولة، كما أن العديد من تسريبات الإخوان التى تمت إذاعتها كانت عبارة عن تسريبات مفبركة، وتدخل فيها عامل المونتاج بشكل كبير، «اليوم السابع» فى سلسلة حلقات متواصلة تسعى لكشف تفاصيل لعبة التسريبات، التى تهدف منذ ظهورها لنشر موجة تشكيك وإحباط وفوضى وتمهد لما يحلم به الإخوان والنشطاء كل ذكرى جديدة للثورة من نشر الفوضى، وتحريض الناس على التظاهر، ولكن وعى الشعب المصرى يقف فى كل مرة عائق أمام هذه المؤامرات الشيطانية.
التسريبات.. إحدى أبرز الظواهر التى حملتها ثورة الخامس والعشرين من يناير للمصريين، ولم تكن مطروحة على طاولة الحياة المصرية اليومية بين أباطرة السياسة، وتجار الدين، وحرافيش الثورة المتناثرين فى الأزقة الخلفية للمشهد السياسى، بحثًا عن أى قطعة من «كعكة» ظنوا أنها ستكفى الجميع، وانبعث فى وجه أهل المحروسة ما لم يكونوا يتوقعون أن يروه فى الحياة العامة، أو أن يكون مطروحًا بهذه الصورة العلنية، وتفتح له المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية بابها بكل هذه المساحات الواسعة.
التسريبات استمرت على مدى 6 سنوات مضت، ولعبت دورًا رئيسًا وحاكمًا فى المشهد المصرى، وتاريخ الثورة، وتطورها، وربما أهم محطاتها، وطالت الجميع بداية من نظام الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، ثم الإخوان، وحتى نظام ما بعد 30 يوليو، وأخيرًا وصلت لمحتكرى الثورة والمحتفظين بصكوك ملكيتها لأنفسهم.
الغريب أن محتكرى صكوك الثورية كانوا فى مقدمة من روّج وشرع واحتفل بجميع التسريبات التى انطلقت مع بداية ثورة يناير، وملأوا بها صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، ودشنوا لها مساحات واسعة، وأطلقوا لها الهاشتاجات، وروجوا لها بكل ما توافر لهم من قوة، والآن يحاولون استخدام كل أسلحتهم لمواجهة التسريبات، والوقوف أمامها بدعاوى وقدر هائل من الضجيج حول حقوق الإنسان، والخصوصية التى يجب أن يتمتع بها فى أى دولة، متناسين أن ما أثير مؤخرًا هو تسريبات لا تحمل فى أى جانب من جوانبها أى مساس بأى حياة شخصية لأى فرد من أفراد الدولة، وأن كل ما ينشر أو يذاع خلال الفترة الأخيرة يكشف شؤونًا عامة، وملفات لأشخاص يحاولون تحريك مستقبل هذا البلد، ومستقبل المنطقة بأكملها نحو نقاط ضباب وظلام لا يعرف نهايتها أحد حتى الآن، وإن كنا رأينا بوادرها فى مناطق مثل سوريا والعراق.
نحن هنا لا نحاول أن نشرع أو ننزع الشرعية عن التسريبات، فهى ظاهرة أصبحت أمرًا واقعًا فى المشهد السياسى المصرى، وهى بالمناسبة ليست جديدة، وليست حكرًا على المصريين، فلا أعتقد أن هناك سياسيًا بارزًا عالميًا لا يدرك أنه مراقب، ويحاول خصومه النيل منه بجميع الطرق، ومعرفة المعلومات عنه، وتسريب ما يفيدهم منها، أو اختلاقها فى بعض الأحيان إن لم يجدوها، وآخر تلك المشاهد العالمية البارزة كان تسريب المكالمة الجنسية للرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب مع المذيع بيلى بوش، حول طرق إغواء النساء، والتى كان عمرها قرابة 11 عامًا، وبثت عبر مواقع التواصل الاجتماعى قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية مباشرة، فى محاولة لتقديم ضربة سياسية قاصمة له، وأثارت بالفعل ردود أفعال عالمية ضخمة، لتضاف لقائمة طويلة تشمل العديد من رؤساء العالم، الذين يكفى فقط أن تكتب على جوجل «تسريب مكالمة الرئيس» ليقدم لك العديد من المقترحات بين الرئيس اليمنى عبدربه منصور هادى، وأحمد بن مبارك، مدير مكتبه، ومكالمة رئيس الوزراء القطرى حمد بن جاسم، وغيرها من المكالمات التى تملأ شبكة الإنترنت.
بالعودة لثورة يناير وتاريخها مع التسريبات، نجد نقطة البداية عند تسريب ساذج نشرته صحيفة «الجارديان» العريقة، يدعى أن ثروة عائلة مبارك تبلغ 70 مليار دولار عام 2011، وهو للمفارقة العام نفسه الذى أعطت فيه «فوربس» لقب أغنى رجال العالم لرجل الأعمال المكسيكى ذى الأصل اللبنانى، كارلوس سليم الحلو، بثروة لم تتعدَ 57 مليار دولار فى ذلك الحين، لتكشف عن مدى سذاجة تلك التسريبات التى أدعت رقمًا غير مقبول بأى منطق فى هذا الوقت لأى رجل حتى على مستوى العالم.
المفاجأة أنه ورغم سذاجة تلك التسريبات فى هذا الوقت، انطلقت أبواق من ينتقدون التسريبات اليوم، لتروج لتلك الأرقام عبر مواقع التواصل، وعبر النوافذ الإعلامية التى فتحت أبوابها لهم على مصراعيها، ولعب هذا الرقم المزيف دورًا بارزًا فى ثورة المصريين، بل وفى الشارع المصرى الذى جلس لشهور ينتظر عودة تلك الأموال لتوزع على الشعب، ويحصل كل على نصيبه.
لم يكن من المناسب أن تنتهى التسريبات بنهاية نظام مبارك، وانتصار الثورة فى هذا الوقت، فالمطلوب كان أن تستمر حالة التوتر فى الشارع المصرى لتدفع بانهيار الدولة، وليس لانهيار نظام حكم، واستبدال نظام حكم به يدعم قيم الحرية والعدالة الاجتماعية التى نادى بها الشباب، ولم يجد من يعملون فى الظلام فى هذا الوقت أفضل من اقتحام مقر جهاز أمن الدولة، ليزوروا الوثائق طبقًا لأهوائهم، ويملأوا بها صفحات «فيس بوك» و«تويتر»، والمفاجأة أنه حتى لحظات كتابة تلك السطور مازالت تنتشر على «فيس بوك» صفحات مخصصة تحمل أوراقًا مزعومة لجهاز أمن الدولة المصرى، لا يمكن القول على أغلبها سوى أنها وثائق كوميدية مليئة بالأكاذيب، ولكنها كانت لفترات طويلة عنوانًا للحقيقة فى عيون من يبكون الآن بعدما طالتهم نيران التسريبات.
النظام الإخوانى هو الآخر لم يخلُ من التسريبات التى جاء معظمها من داخل الجماعة، لتعبر عن انقسام ما يدور فى أوساطها، كان أبرزها هو تسريب فيديو للرئيس الأسبق محمد مرسى مع مرشد الجماعة، محمد بديع، يظهر فيه «مرسى» فى مشهد الخادم المطيع لمرشده، وهو يقرأ له أحد خطابته بالتفصيل، ويتلقى منه المعلومات، ويقف فى طابور فى انتظار أن يتفرغ له.
يظهر «مرسى» فى الفيديو أيضًا وهو يقف إلى جوار مكتب المرشد الذى يجلس لينقح ويحدد ما سيقوله عضو جماعته فى خطابه، وهو بالطبع أحد الفيديوهات التى كشفت عن الكثير مما يدور داخل أروقة تلك الجماعة، وكيف تدار مصر، وبتعليمات قصر الاتحادية أم بتعليمات مكتب الإرشاد، كما فضح حالة الانقسام الدائرة لدى قمة قيادة تلك الجماعة، التى قدر لها أن تدير مصر فى لحظة من لحظات التاريخ.
فى هذا الوقت أيضًا أكد محتكرو الثورة أن تلك التسريبات مهمة وكاشفة للجماعة الإرهابية، وحاولوا استغلالها والترويج لها، والتأكيد على أن «مرسى» لا يصلح للحكم، ليس أملًا فى مستقبل أفضل لهذا البلد، ولكن طمعًا فى أن ينتقل الكرسى الذى يجلس عليه لهم، ولهذا فقط يمكن أن يتغير المبدأ، ويمكن أن يملأوا الفضاء الإلكترونى والعالم الافتراضى الذى يعيشون فيه عبر مواقع التواصل الاجتماعى بتلك التسريبات، محمولة بعبارات الإشادة والتأييد والانتقاد لمن تفضحهم، أو أن ينشروها مصحوبة بحديث عن احترام الحريات العامة، وانتهاك الخصوصيات، مع إهمال كامل لمحتوى وخطورة ما تكشفه تلك التسريبات.
الإخوان أنفسهم لم يقفوا مكتوفى الأيدى أمام محاولات الأطراف المتصارعة لاستغلال التسريبات لصالحها، وزوروا تسريبات نسبوها للرئيس عبدالفتاح السيسى، ومدير مكتبه اللواء عباس كامل، ورغم أن التحقيقات أثبتت تزوير تلك المكالمات، فإن قنوات الإخوان، وأبرزها قناة الجزيرة القطرية، فردوا مساحات واسعة لتداول ونقل تلك المكالمات.
الموجة الأحدث من التسريبات الآن يقودها الدكتور عبدالرحيم على فى سلسلة لقاءات مع برنامج «على هوى مصر»، الذى يقدمه الكاتب الصحفى خالد صلاح، عبر فضائية «النهار One»، والإعلامى أحمد موسى فى برنامجه «على مسئوليتى»، المذاع عبر فضائية «صدى البلد»، والغريب أن أحدًا ممن كشفتهم تلك التسريبات لم يخرج ليؤكدها أو ينفيها، ولم يبرر أيًا من مواقفه المخزية والمسيئة.
من الغريب ألا يخرج الدكتور محمد البرادعى ولو بتغريدة واحدة ليأخذ بخاطر أصدقائه الذين ظهر وهو يسبهم جميعًا، ويوجه لهم الاتهامات والتخوين، ويحقر من شأنهم بكل السبل الممكنة.
«البرادعى» أيضًا لم يحاول شرح موقفه لجماهيره التى انقلبت عليه بصورة كبيرة بعد تلك التسريبات، فكانت المفاجأة أن يشتعل موقع التدوينات القصيرة «تويتر»، الذى كان يعتبره «البرادعى» ملجأه الأكبر، ومساحته لاجتذاب الشباب المثقفين، ليتحول إلى أبرز المواقع التى يهاجم هو فيها، وعلى مدى ثلاثة أيام كاملة منذ نشر التسريبات، تصدرت المرتبة الأولى فى المواضيع الأكثر تداولًا على موقع التدوينات الأشهر عالميًا، هاشتاجات تنادى بسحب قلادة النيل والجنسية منه، وتنعته بألقاب مثل «ملك التسريبات»، ورغم كل هذا لم يخرج «البرادعى» بتوضيح واحد حول تصريحاته الصادمة فى تلك التسريبات، ولم يتمكن سوى من انتقاد فكرة التسريب، التى لم ينتقدها فى أى مرحلة من المراحل التى طالت فيها خصومه، ليعلن بكل وضوح أنه لا يدافع عن فكرة رفض التسريبات الدائرة منذ 6 سنوات، إلا حينما مسته تلك التسريبات.
كما كشفت حلقات الدكتور عبدالرحيم على مع الإعلامى خالد صلاح معلومات كان لا يمكن أن تظل محفوظة فى دفاتر من يملكها عن تسليح جماعة الإخوان الإرهابية، والخطة المشتركة بينها وبين «حماس» لتشكيل جيش مقاتل بمصر، وخطة اغتيال الرئيس عبدالفتاح السيسى.
وعبر سلاح التسريبات واصلت سلسلة الحلقات فضح دور قطر فى دعم الإرهابيين فى ليبيا، ومؤامرة تعيين إرهابى بالمجلس العسكرى الليبى، ووثيقة نشاط الإرهابيين بسوريا والعراق، ومكالمة بين حمد المقريف، رئيس المجلس الوطنى الليبى الذى تسلم المهام فى 2012 لمدة عام، والإخوانى أبوزعكوك لقتل الجنود فى ليبيا، إضافة لفضح علاقة الدوحة بـ«القاعدة»، وفيديوهات توثق لمقتل «القذافى» على يد ضابط قطرى، واعترافات الإرهابيين باغتصاب الليبيات، وغيرها من التفاصيل الخطيرة التى لا يمكن اعتبارها بأى شكل من الأشكال ترتبط بخصوصية أصحابها، بقدر ارتباطها بتاريخ وأحداث سياسية فارقة فى تاريخ الدول.
من شرعوا لتسريبات كاذبة حول ثورة رئيس أسبق، وأسسوا لتسريبات أمن الدولة، بل كانوا شركاء فيها، وفى اقتحام إحدى أهم مؤسسات الدولة بهدف تسريب معلوماتها، ثم تزييف تلك المعلومات بعد فشل الحصول عليها، ثم دعموا انتشار جميع تسريبات خصومهم السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعى، يجب أن يواجهوا الآن أن ما شرعوا له تحول إلى كرة ثلج انطلقت ولن تقف، وستكشف الأيام المقبلة عن المزيد من التسريبات فى كل الجهات.
الحد الفاصل هنا هو ألا يسمح المشهد الإعلامى بتداول تسريبات تمس الحياة الشخصية لأى فرد، أو تنال من عائلته أو سمعته الشخصية وليس سمعته العامة، فمع اهتمام الصحفيين وسعيهم وراء الحصول على السبق والمعلومة، من الممكن أن تنفلت بعض الأعيرة فى غير موضعها، وعلى الجانب الآخر يجب أن يقدم الواقعون فى مصيدة تلك التسريبات التبريرات الكافية لمن كانوا يظنون فيهم الخير، أو أن يصمتوا إلى الأبد بعيدًا عن المشهد المصرى الذى بات من الصعب أن يقبلهم، ولكن الحديث حول الحقوق الشخصية والخصوصية فى ملفات تمس مستقبل وواقع وطن بأكمله هو حديث لن يكون له أى وزن فى مواجهة الشارع المصرى الذى يتابع ويرصد الحقائق التى تنكشف أمامه يومًا بعد الآخر.