على كرسى مرقس الرسول، تواترت الأسماء والقداسات عبر قرون عديدة متتابعة، 118 بطريركا تولوا الكرازة المرقسية، مرت عليهم محن ومشكلات وصعوبات عديدة، يتصل فيها السياسى بالدينى، والإنسانى بالروحى، ولكن صلابة عصا الرعاية كانت كافية لعبور كل الأزمات، والحفاظ على توازن الكنيسة فى المنحدرات والانعطافات الخطرة، الرابط بين الآباء والأبناء، بين الإكليروس وشعب الكنيسة، قوى ومتين، الظروف الصعبة والاختبارات القاسية فرصة لتوطيد العلاقات، لتجديد ثقة الشعب فى القيادة الروحية، وتجديد عهدهم مع كرسى مارمرقس، ومع الصليب، والرجاء الحى لولوج ملكوت السماء بمحبة كاملة وصافية للعالم، وللمسيح وأبنائه وحملة صليبه فى هذا العالم، لهذا لم تحمل رياح الحياة وعواصفها أى تهديد أو اهتزاز للكنيسة، ما دام الشعب ملتفًا حول المذبح ومعلقا العيون على الصليب، وما دامت عصا الرعاية قوية وعالية، فلا خوف ولا قلق، ولكن ماذا لو اهتزت روح الشعب، أو خرجت من أسوار الكنيسة، أو تفرقت بعيدا عن المذبح، أو أصابت الشقوق عصا الرعاية المقدسة؟!
31 من ديسمبر 2010/ الأول من يناير 2011.. قبل الثورة بـ24 يوما
تدق الساعة الثانية عشرة تماما بتوقيت الإسكندرية، الآن يُفترض الخروج من العام ودخول عام جديد، ولكن مع دقات الساعة يدوى صوت الانفجار الضخم، رافضا انتقال الحضور من 2010 إلى 2011، كنيسة القديسين تنفجر ورعاياها بنتقلون إلى ملكوت السماء، ينتقل العالم من عام إلى عام، تنتقل الكنيسة من عصر إلى عصر، الشهداء يتساقطون كالورق، الغضب يتصاعد كرياح، البابا شنودة يصارع شبح الموت، ويعيش شهوره الأخيرة كبطريرك لكرسى مارمرقس الرسول، حلوله التقليدية لاحتواء شعبه لن تجدى، الحادث ضخم والقتلى على الجانبين، كلمات المواساة والصبر لن تفيد، العالم يتغير حولنا والثورة التونسية تطلق شرارة التغيير فى المنطقة.
كنيسة القديسين
الكنيسة تودع شهداءها، المظاهرات تخرج من حرمها للشارع، حتى أنها تحاصر لقاءه البروتوكولى بشيخ الأزهر، الذى ذهب ليؤدى واجب العزاء مصحوبًا بهتاف المتظاهرين والتجمعات المحيطة بالكاتدرائية، الطالبة للحق والثأر، الأقباط يقطعون الشوارع، يرجمون المارة بالحجارة، ينددون بوزارة الداخلية التى تخلت عن حمايتهم أو تورطت فى الحادث، حسبما شعروا وقتها.
"القديسين" ليست البداية، لكنها الشرارة، قبلها بشهرين وقعت أحداث العمرانية التى أسفرت عن سقوط ضحايا أيضًا، القوانين المصرية تعوق بناء الكنائس، ومحافظة الجيزة تعطل البناء، الأقباط يتظاهرون فى مقر المحافظة، ويشتبكون مع الشرطة، التى تُسقط أحدهم وتقبض على كثيرين آخرين، البابا شنودة يعظ كعادته كل أربعاء، والشباب يواجهونه باللافتات الغاضبة، فيحتوى الأساقفة الموقف، ويستكمل البابا كلمته، التى يلوح فيها بسوء استخدام السلطة من قبل المسؤولين، ويكتفى بهذا، ولكن عصا رعايته تهتز، وعصا الرعاية هى العصا التى تسلمها يوم ترسميه أسقفًا، وترمز إلى رعايته لشعبه، يحملها البابا فى يده ولا تفارقها إلا بوفاته.
الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير.. الثورة تنطلق
فى صباح الخامس والعشرين من يناير، تطلق الثورة أولى شراراتها، آلاف من شباب الطبقة المتوسطة، الذين ولدوا وعاشوا وتعلموا فى عصر مبارك، يتمردون ضد البابا، يشعلونها جذوة فى النفوس، فينضم لهم من هم أدنى ومن هم خير.
فى الثامن والعشرين من يناير، تنطلق "جمعة الغضب"، مظاهرات عارمة تخرج من المساجد لتغزو القاهرة، تزلزل آلهتها القديمة، مسلمون وأقباط يصنعون ملحمة التغيير، شيوخ وقساوسة ينضمون للميدان، لحى وعمائم تتجاور، صليب وهلال يتعانقان فى التحرير، إنها الثورة إذن.
الكنيسة، كأى مؤسسة تقليدية، يقلقها التغيير، تصدر بيانًا أول تحذر فيه رعاياها من التخريب، تستخدم لغة خطابها، تأمر بالصلاة من أجل مصر، الوظيفة التى خلق الله الكنائس من أجلها، وتحث شبابها على الابتعاد عن الجماهير، ولكن الشباب خرجوا، وما زال الأثر القديم للعبارة الكنسية الشهيرة "ابن الطاعة تحل عليه البركة".
الثورة تتوحش، مبارك يتنحى، والنظام يتغير، والكنيسة تبارك ثورة الشباب الطاهر، فى بيان موقع بخط البابا شنودة، ما زالت تحتفظ به الكاتدرائية فى متحف البابا الراحل حتى اليوم.
الثورة تنطلق
يوليو 2011 (موقعة الكلب).. راغبو الطلاق يحتجون على كنيستهم
فى يوليو2011، أى بعد الثورة بشهور قليلة، حصد الأقباط نتاج خروجهم للشوارع، وطفحت مشكلة الطلاق على السطح، إذ كان البابا شنودة قد أصدر قرارًا فى 2008، يقصر فيه الطلاق على علة الزنا فقط، بعدما كان مسموحًا به لعدة أسباب وفق نصوص لائحة 1938 بشأن الأحوال الشخصية للأقباط.
شكل راغبو الطلاق المسيحيون ائتلافات تهاجم البابا علنًا، وتطالب بحقوقهم فى الطلاق والحصول على تصريح زواج ثانٍ، حتى أن هؤلاء نظموا مظاهرة حاشدة تضم مئات من المتضررين أمام الكاتدرائية، وردت الكنيسة بإطلاق كلاب الحراسة على المحتجين لتفريقهم، فى ما عرف بـ"موقعة الكلب"، ثم تصاعد الموقف، وتبعت ذلك عدة احتجاجات ما زالت مستمرة حتى اليوم.
أكتوبر 2011 (أحداث ماسبيرو).. الأقباط يخرجون عن السرب
غادر الرئيس الأسبق حسنى مبارك السلطة، وتولى المجلس العسكرى إدارة مقاليد الأمور، ومال زالت الثورة فى الشوارع، والنفوس أيضًا، تندلع أحداث طائفية متفرقة، تتشوه صورة يناير الجميلة، يفيق الثوار على قبح الحقيقة، الميدان كان رمزًا للوحدة والجمال، والرمز لا يشبه الواقع فى شىء.
فى سبتمبر 2011، تقع أحداث الماريناب، متطرفون يخرجون من صلاة الجمعة، يعتدون على كنيسة بقرية الماريناب بأسوان، يحرقون منازل الأقباط ويحاولون هدم الكنيسة، أسوان بعيدة عن الثورة، وشوارع القاهرة تغلى، الأقباط يقررون الاعتصام أمام مبنى ماسبيرو، حيث تلفزيون الدولة، تخرج مسيراتهم مساء الرابع من أكتوبر من كل أحياء القاهرة، شبرا القريبة، ورمسيس والتحرير.
اشتباكات تقع بين الشرطة والمتظاهرين، ثم مع القوات المكلفة بحراسة مبنى التليفزيون، القتلى يتساقطون، والبابا شنودة يعزى شعبه فى "أبنائه العزل الذين لم يحملوا سلاحًا وقُتلوا"، تعج الكاتدرائية بأصوات الغضب "يا رب يا رب"، يتحول الهتاف من "ارفع راسك فوق انت مصرى"، الذى كان شعارًا للثورة فى تجلياتها الشعبية الواسعة، إلى "ارفع راسك فوق انت قبطى"، تعبيرًا عن الحسرة من وطن لم يحتو مطالبهم.
"24 قتلى وأكثر من 300 مصاب"، يقول البابا شنودة، وترتفع صور الشهداء فى الكاتدرائية أمامه، ويتعالى الهتاف "بالروح والدم نفديك يا صليب"، حتى أنه يحتد ليوقف الهتاف: "استنى يا ابنى أما نتكلم"، يتحدث قليلًا ثم يتغير الهتاف "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"، هتافات الثورة تنتقل إلى قلب الكنيسة، يُسكتهم البابا بجملة حادة: "احترموا كرامة الكنيسة التى لا تصح فيها هذه الضوضاء"، ثمّ يبدأ محاضرته الأسبوعية، دون أن يعرف أن الكنيسة ستتحول بعد وفاته لساحة للتظاهر.
ائتلافات تتشكل خلال الاعتصام، حركات قبطية تواصل المسير بعد أن تجف الدماء، أهمها ائتلاف شباب ماسبيرو، الأقباط يخرجون عن السرب، شبوا عن الطوق وعرفوا طريقهم إلى حقوقهم، عبروا أسوار الكنيسة إلى الشارع الواسع، يطالبون بالحقوق، يهتفون فى المظاهرات، ويرفعون اللافتات.
أحداث ماسبيرو فى أكتوبر 2011
البابا شنودة يرحل.. القائم قام يتولى والمظاهرات تتواصل
يتنيح (يموت) البابا شنودة فى مارس 2012، يودعه شعبه كرمز وقديس، ويعلو الدينى على السياسى، يأتى الأنبا باخوميوس قائمًا للمقام بديل البابا لحين اختيار راعٍ جديد، الأنبا باخوميوس رجل المرحلة الانتقالية، الائتلافات القبطية تشكلت، وتشارك فى فعاليات عدة فى الميدان، صارت جزءًا من حراك سياسى واسع، بدأ بعد الثورة التى كانوا جزءًا منها.
البابا شنودة يرحل
يونيو 2012.. الرئيس الدينى فى القصر والأقباط فى الشارع
فى يونيو 2012، أى بعد وفاة البابا شنودة بثلاثة شهور تقريبا، وصل محمد مرسى إلى سدة الحكم، رجل ذو خلفية إسلامية، خلفه جماعة دينية كبيرة وقديمة، لديه أغلبية برلمانية، ومدعوم من جماعات إسلامية متطرفة، مبررات كافية ليعود الأقباط لعزلتهم داخل أسوار الكنيسة، وهو ما لم يحدث.
فى يوليو، وبعد تولى "مرسى" الحكم بشهر واحد، يعود الأقباط للتظاهر أمام الكاتدرائية مرة أخرى، يطالبون ممثليهم بالانسحاب من الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد، بعدما شكوا أن الدستور المنتظر سيأتى على ما تبقى من حقوقهم.
نوفمبر 2012.. البابا الجديد يجلس على كرسيه/ الرئيس يقترب من المغادرة
فى نوفمبر 2012، بعد انتخابات باباوية تلاها طقس "القرعة الهيكلية" الذى تنتهى به مسيرة اختيار البابا الجديد، جلس البابا تواضروس الثانى على سدة كرسى مارمرقس، ليصبح البابا 118 فى تاريخ الكنيسة القبطية، وبينما كان الرئيس الدينى فى قصره، يطمح فى السيطرة على مزيد من مفاصل الدولة، كان البابا الجديد يتسلم زمام كنيسته، التى تبدلت وتغيرت ولم تعد كما كانت من قبل، أقباط خرجوا على السرب، شباب غاضبون، ومشكلات متوارثة، ودولة تمر بمرحلة مخاض وحراك سياسى كبير.
البابا الجديد على كرسيه
2013.. الأقباط ينضمون لثورة ضد المعزول والكنائس تدفع الثمن
فى يونيو 2013، تظهر حركة "تمرد" داعية للثورة على الرئيس الدينى، يعود الأقباط للشارع فى الثلاثين من الشهر نفسه، بعدما ذاقوا مرارة الخوف والتهديد من الإسلاميين طوال عام كامل، ثم يتوج البابا حراكهم ويظهر فى الثالث من يوليو جوار وزير الدفاع آنذاك، الفريق أول عبد الفتاح السيسى، وعدد من القوى الوطنية التى باركت عزل الرئيس الدينى.
فى أغسطس 2013، يدفع الأقباط ثمن اشتراكهم فى الثورة ضد الإسلاميين، كنائسهم تُحرَق عقب فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، ويطلق البابا عبارته الشهيرة: "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن".
فى نوفمبر 2013، يُفاجَأ البابا بسيدة تقاطع عظته الأسبوعية فى الكاتدرائية، لكى يسمعها، ولكنه يأمر الأمن بإخراجها من الكنيسة، ويتكرر الأمر بعدها بعام مرة أخرى، أصوات الاحتجاج تحرج البابا فى كنيسته، شق جديد فى عصا البابا.
المحتجون يقاطعون عظة البابا.. تزايد الشقوق فى عصا الرعاية
فى 2014، قاطعت سيدة أخرى عظة البابا تواضروس، وظلت الممارسات غير المتسقة مع طبيعة الكنيسة ذات النظام الروحى الأبوى تتكرر، وبعدها بعام يضطر البابا لقطع عظته الأسبوعية بنفسه، بعد مظاهرات حاشدة تضج بها الكاتدرائية للمطالبة بالحق فى الطلاق والزواج الثانى، ثم يطلق بعض المحتجين حركة أخرى لجمع توقيعات ضد البابا باسم "تمرد"، بالفعل لم تلق قبولًا كبيرًا من الشعب القبطى، ولكنها كانت إضافة جديدة للشقوق المتزايدة فى عصا الرعاية الباباوية.
2016/ 2017.. البابا يحاول ترميم عصاه
يقرر البابا نقل عظته الأسبوعية من الكاتدرائية إلى كنائس أخرى بعيدة عنها، يبعد التظاهرات عن مقره البابوى، ويشتت أذهان المتظاهرين، ثم يقرر احتواء شباب الكنيسة على طريقته الخاصة، فيطلق مشروعًا يتبناه شخصيًا لتدريب ألف معلم كنسى، ويمنحه اسم "جدد أيامنا"، بعدما تنبه إلى أن الطرق القديمة لا تصلح مع الجيل الجديد، البابا يحاول ترميم عصا رعايته وترميم الشقوق التى تركتها الثورة، وما زال يسعى، فهل تلتئم عصا الرعاية؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة