"إننا نبيع النفط للهنود بأسعار أقل من الأسعار العالمية، والهنود يبتزوننا بأن يدفعوا لنا مقابل نفطنا بضائع لسنا فى حاجة إليها، ويسددون بتسهيلات ائتمانية ليس لها نظير فى العالم، ولأن سياستنا الاقتصادية غير مرضية، فقد قررت الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية"، ألقى هاشمى رفسنجانى القنبلة فى وجه "خامنئى"، وأحدث زخمًا رهيبًا بتلك الكلمات، التى أعلن من خلالها خوضه الانتخابات، فى أيام مماثلة قبل أربعة أعوام، لكن "خامنئى" رد له الكيل بأن منعه من الترشح، إذ لم ينل موافقة مجلس صيانة الدستور الذى يفصل فى أهلية المرشحين لخوض الانتخابات المختلفة، ليُعتبر من جانب المجلس غير ذى أهلية للمنافسة على المنصب الرفيع.
ظن خامنئى أنه ربح الجولة واستطاع أن يخرس رفسنجانى للأبد، غير أن الأخير علّم الجميع أنه يملك من القدرة على التوازن ما لا يطيقه أحد، فاستمر فى قلب المشهد معلنا دعمه روحانى وتصديه علانية لفكرة الانغلاق أو ما يعرف بـ"اقتصاد المقاومة"، وفى كل مرة كان الفريق الدبلوماسى فى المفاوضات النووية يحرز تقدمًا كان رفسنجانى يبارك الخطوات فى اتجاه الانفتاح على الغرب.
هاشمى رفسنجانى.. رجل الخمينى الثرى والسياسى والفقيه
يُعدّ هاشمى رفسنجانى واحدًا من أهم الساسة فى تاريخ إيران الحديث والمعاصر، بل يمكن القول إنه الأهم على الإطلاق؛ لأسباب لا حصر لها، منها أنه كان رجل الإمام الخمينى الموثوق، وعقله الراجح، ووزيره المقرب، ويعود إليه الفضل فى عدد من الأحداث التى شكلت منحيات جذرية فى سيرورة التاريخ الإيرانى المعاصر، خاصة فى مرحلة ما بعد الثورة، منها: الاستفتاء على الدستور، ثم تعديله، ثم ترشيح على خامنئى ودعمه ليصبح مرشدًا بعد رحيل روح الله الخمينى.
فضلا عن ذلك، جمع "رفسنجانى" بين الثروة الاقتصادية والمناصب السياسية واللقب العلمى الفقهى، ومن ثمّ فإن رجل الأعمال المعمَّم، صاحب بساتين الفستق الشاسعة والثروات الكبيرة الذى عُرف بلقب "ملك الفستق"، والذى تقلد كل المناصب الرفيعة فى طهران: وزير الداخلية (1979 ـ 1980)، ورئيس مجلس الشورى (1980 ـ 1989)، ورئيس الجمهورية (1989 -1997)، ورئيس مجلس خبراء القيادة (2007 ـ 2011)، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام (1989 ـ حتى وفاته)، لم يكن يتبقى له إلا منصب المرشد فقط حتى يصبح الرجل الذى لم يتكرر لا فى إيران ولا فى أى نظام سياسى آخر عبر التاريخ.
حصالة المناصب السياسية الإيرانية.. طموح الإرشاد وانقطاع السبل
رغم الأفضليات العديدة التى كان يتمتع بها هاشمى رفسنجانى داخل بنية النظام الإيرانى عقب الثورة الإسلامية فى 1979، إلا أن حظوظه لتولى منصب المرشد لم تكن وفيرة، على خلفية علاقة السجال التى نشبت مع على خامنئى، بسبب عدم رضا الحرس الثورى عن مواقفه، وعدم سماح مجلس صيانة الدستور له بخوض الانتخابات الرئاسية الماضية، التى فاز فيها "روحانى".
على ضوء كل ما سبق، يمكن قراءة شكل التوازنات السياسة الإيرانية داخليا، بعد رحيل "رفسنجانى"، من جهة فقدان جبهة الإصلاحيين الرجل الذى كان قادرا على تفتيت التيارات المنافسة، وهنا نتحدث عن تيار المحافظين، ففى الانتخابات الماضية أوعز أكبر هاشمى، إلى عدد من المحافظين بخوض المنافسة بهدف تفتيت الأصوات، فى مقابل احتشاد كتل وتيارات الشباب خلف "روحانى" الذى حسم الانتخابات من الجولة الأولى.
نستطيع أن نتبين ذلك من تصريحات أدلت بها فائزة هاشمى رفسنجانى، التى قالت إن التيار المحافظ فى إيران غير قادر على الاتحاد ودعم شخصية بعينها فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، المقرر إجراؤها مايو المقبل، وهناك احتمال أن يتنافس التيار الأصولى فى هذه الانتخابات بأكثر من مرشح، وألا يتمكن من التوافق على مرشح واحد مثل التيار الإصلاحى.
رحيل "رفسنجانى".. خنجر فى قلب الإصلاحيين وضوء أخضر للمحافظين
الخلاصة، أن إيران فقدت واحدًا من أهم عوامل ديناميكيتها السياسية، برحيل "رفسنجانى" الذى كان داعما لـ"روحانى"، والذى كان شديد الانتقاد للسياسات الاقتصادية الإيرانية، وبهذا فقدت جبهة الإصلاحيين، أو بالأحرى "المحافظين المعتدلين"، واحدًا من أهم ركائزها، لأنه كان يحظى بثقل سياسى وثروة اقتصادية وقوة تأثير فى قطاعات واسعة من المثقفين والطبقات الطلابية والشبابية فى إيران، ومن ثمّ ليس مستبعدًا أن يواجه "روحانى" مشكلات كبرى فى الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها مايو المقبل.