وأنا أتجول فى أروقة معرض الشارقة الدولى للكتاب لمحته من بعيد، حيث كان يمر من باب الدخول، فذهبت إليه ولما شاهدنى مقبلا عليه، ابتسم قائلا "أهلا أهلا"، فرددت التحية قائلا: لن أطيل عليك سأتحدث معك عشر دقائق لا غير، وهذا لا يحدث بكل تأكيد فالكلام معه قد يستمر لوقت يفوق ساعات اليوم الكامل، ولكن حتى لا يثقل الأمر، وبكل تواضع وافق، وقال هذا يسعدنى، ونحن فى طريقنا لمكان نجلس فيه، صنعت نسيجا من الدردشة حتى أضع لنفسى خيوط حوارى، وكانت اللقطة هى الراحلة مى زيادة، عندما قال لى إن آخر أعمالى عن مى زيادة لاقت نجاحًا كبيرًا، وكان من هنا زمام الحوار، وبعد دقيقة أو دقيقتين بالتحديد وصلنا للمكان المرغوب داخل معرض الشارقة الدولى للكتاب بدورته الـ 36، وجلسنا على طاولة صغيرة وبدأ الحديث.
حدثنى عن آخر أعمالك الإبداعية ؟
أحدث أعمالى عن الكاتبة مى زيادة، وتناولت سيرة حياتها واشتغلت على تفاصيل ما حدث لها، إلى أن أدخلها ابن عمها "جوزيف زيادة" التى أحبته كثيرًا إلى مستشفى المجانين، واتضح بعد ذلك أنه يريد أن يستولى على أموالها، وكتبت بالفعل مذكراتها داخل المستشفى ولكن تم حرقها، ولا يوجد أحد يتحدث عنها.
ألم تشعر بالإرهاق لإتمام عملك بسلام؟
أنا أحب السياحة الأدبية وهذا النوع من السياحية أستمتع به، حينما يذهب الكاتب للبحث عن أدواته التى يكتب عنها داخل الأماكن، لافتا إلى أنه خلال بحثه فى حياة مى زيادة وصل لبعض الوثائق تحكى فيها عن تجربة مستشفى المجانين، ويتحدث فى الراوية بلسان مى زيادة، كما عرف صوتها خلال أبحاثه، وحتى حبها لجبران والمراسلات واكتشف أشياء غريبة.
هل اكتشفت أشياء جديدة فى حياة مى زيادة؟
بكل تأكيد، ومن الأشياء الغريبة التى اكتشفتها هو أن حبها الذى قتلها، فابن عمها هو القاتل، رغم أنها أحبته كثيرًا وهو أيضًا، لدرجة أن أصدقاءها كانوا يحسدونها على هذا الحب، وتم الاتفاق بالفعل على زواجهما لكنه سافر إلى باريس وتزوج غيرها وتركها، وكانت حياتها مشغولة به، فكان هو أبوها وأمها بعد موتهما ولما تركها أصيبت بالحالة من الضياع النفسى.
وقبل أن أطرح عليه سؤال آخر.. سكت لثوان وهو حزين لما جرى لها، واستطرد قائلا: إنه عندما اشتد على مى زيادة الوجع عام 1936 أرسلت لابن عمها تقول له "تعالى أنا سأموت"، وكانت صادقة بالفعل، وهذا مدون فى أحد رسائلها التى حصلت عليها ولكنى لم أنشرها لعدم أحقيتى فى نشرها، وبالفعل جاء ليزورها وبدلا من أن يساعدها قال لها إنك متعبة صحيًا فوضينى بأعمالك حتى لا يسرق منك أحد أموالك، وبالفعل فعلت ذلك، لتجد النتيجة أنه يسرقها.
بكل ما شاهدته فى حياة مى زيادة ألم تبك يومًا وأنت تسرد؟
كنت أبكى كثيرًا حتى أن زوجتى لاحظت الأمر، وأصبحت تعرف أن ذلك يحدث لى لأننى أكتب عن مى، فعلاقتى معها ليست علاقة كاتب وكاتبة بينما إنسانية فى الدرجة الأولى، بالإضافة إلى الظلم الذى لحق بوالدتى عندما استشهد والدى 1959 خلال الثورة الجزائرية، ووجدت نفسها تربى 6 أطفال، فى قرية معزولة ولا يوجد لها معيل، ولذلك تعاطفت مع مى زيادة لأنها تمسنى ككاتب وسيجد القراء أنفسهم فى تلك الرواية.
وبدعابة خلال الحوار قال واسينى الأعرج نعم بكيت فأنا دموعى قريبة فلا يغرك جثتى الكبيرة فأنا طفل صغير.
إذا كانت مى زيادة من نفس جيلك هل كنت تقع فى حبها؟
إذا كنت عرفتها نعم كنت أحببتها، وتمنيت أن أكون فى مكان ابن عمها جوزيف زيادة، لكن ليس بطبيعته، بل على العكس تمامًا، سأكون على خير، وأعرف مقدار حبها لى، فهى امرأة حساسة، وكنت سأحبها بكل تأكيد.
هل تخيلت رد فعل مى زيادة إذا قرأت روايتك قبل رحيلها؟
كانت ستقول لى "شكرًا"، وأنا اعتبر نفسى من المنصفين لها، وهى قالت أتمنى أن يأتى يوم وينصفنى أحد، واليوم أقول أنا لها أتمنى أن أكون أنصفتك.
بعد تحليلك لشخصية مى زيادة ترى أنها كانت ضعيفة؟
لا بالطبع، قوتها أنها لم تستسلم على الإطلاق، وأدركت أنها يومًا ما ستنجح، وفعلا نجحت، وسعيد أن حلمى تحقق عندما انتهيت من كتابة هذه الرواية قبل أن أموت وكان هذا ما أخشى منه حقًا.
ترى أن الرواية عن مى زيادة ستتغلب على الأبحاث التى أجريت عن حياتها؟
الناس يبحثون عن الرواية ويقولون أين رواية مى زيادة، لأن القراء تعرف أن هناك قضية ضائعة، ويريدون أن يعرفونها بشكل أوسع، وأنا مؤمن بأن الرواية أفضل بكثير من الدراسات الأدبية، بالطبع أن الدراسات مهمة ولكن نخبتها محدودة، ولكن الرواية جمهورها واسع، يكفى أن الناس يقتنعون بما يكتب فى الرواية.
هل تمثل مى زيادة وضع المرأة فى الوطن العربى؟
مى زيادة نموذج إيجابى، لأنها ناضلت ولم تستسلم، وكان لها باع كبير فى كتابة الكتب عن النساء العربيات، وحاضرت عن النماذج النسائية فى جميع المحافل العربية الدولية.
هل عرض عليك تحويل الرواية إلى عمل درامى؟
أتمنى أن يتحول هذا العمل إلى عمل درامى، وبالفعل عرض على أن يحول العمل إلى دراما فى مصر، ولكن لا يحق لى أن أفصح عن ذلك لعدم وجود اتفاق رسمى حتى الآن.
ما الحلم الذى كنت تريد تحقيقه لكنك لم يتحقق؟
كنت أتمنى أن أصبح مخرجًا لكن ظروف عائلتى حالت دون ذلك.
إذا كنت مخرجًا ما الفيلم الذى شاهدته وتمنيت أن تقوم بإخراجه؟
هناك أفلام كثيرة متميزة ولكن الفيلم الذى ترك بداخلى أثرًا بشكل كبير هو "اليوم الأطول" وهو فيلم فرنسى، وأنا أميل نحو الأفلام التى تتناول الأمور الشخصية، والإنسانية.
هل ترى أن الكاتب العربى يأخذ حظه فى الترجمة؟
هناك كتاب يترجم لهم كتب، ولكن المشكلة هى ماذا نفعل نحن لإيصال أعمالنا إلى الخارج كمؤسسات ثقافية، فنحن لا نصرف مليمًا واحدًا لترجمة الكتب، كانت هناك كاتبة يهودية تدعى يسبورا اليهودية، وكانت إسرائيل تعتبرها جزءًا من الرهان الثقافى الإسرائيلى، لما بها من إثارة للأفكار من خلال الثقافة، فنحن العرب لا ننفق على الثقافة، فكيف ندافع عن ثقافتنا والترجمة وأنت لا تنفق على الثقافة، فيجب أن نكون حاضرين لتسويق الفكر العربى، ونساهم فى العمل الثقافى، وأتذكر مرة واحدة اجتمع رئيس البحث الفرنسى مع مدير البحث العربى واتفقوا أن يكون هناك ترجمة للأعمال العربية، على أن ترسل كل بلد 10 أعمال لديها، وبالفعل تم اختيار الأعمال ولكن من قبل سياسيين وكانت أسوأ الأعمال، لأن العقل الذى اختار النصوص ليس عقل حيادى، وكان يجب أن يختارها النقاد وأصحاب الصنعة نفسها، فكيف نصل للغرب، فى الوقت الذى لا يدرك العرب قيمة الترجمة.
عدم اهتمام العرب بترجمة الأعمال الأدبية سبب أساسى فى فشلنا للوصل إلى "نوبل"؟
قد يكون هذا أحد الأسباب لأن أعمالنا الأدبية غير مسوقة عالميًا، فهم لا يعرفونا، ولكن هناك حقائق موضوعية وهى كم نص عربى يذهب إلى أوروبا كم نص عربى تروجه دار النشر قد تكون صفر، فالعربى المصرى أو المسلم الصورة الجاهزة عنه أنه إرهابى أو رجل خارج القانون ويضرب زوجته، وهى صور غير حقيقية بالطبع.
ومن أعطى الغرب هذا الانطباع عن الرجل العربى؟
بالطبع التنظيمات الإرهابية التى تتحدث باسم الإسلام وهى لا علاقة لها به، ولكن يجعلنا نقول: من أعطى التمويل لداعش ومنحهم السلاح؟ ومن أين جاءت هذه القوة لها، فإذا لم يكن هناك يد قوية سلحتها وقدمت لهم الحماية، فالإجابة تجعلنا نقول إن الغرب هم السبب فى هذا، وليس نحن، وهذا كله يؤثر على نوبل، فنرى كيف أخلص محمود درويش للشعر لكنه لم ينل الجائزة.
هل كنت تسمع من قبل على الروائى اليابانى " كازو" قبل حصوله على نوبل؟
بكل صراحة لم أسمع عنه من قبل لكنه موجود، وسوف أقرا أعماله قريبا لأتعرف عليه.
بمناسبة مشاركة مصر فى معرض الجزائر كضيف شرف كما ستمثل الجزائر فى معرض القاهرة العام المقبل كضيف شرف.. كيف تصف العلاقة الثقافية بين البلدين؟
العلاقة بين مصر والجزائر متميزة للغاية وهناك علاقات ثقافية قوية بين البلدين، ومصر رغم ما تمر به تظل مرجعًا ثقافيًا عربيًا، مناضلة وهناك حركة حيوية بين الشعبين.
كم استغرقت كتابة سيرتك الذاتية بعنوان سيرة المنتهى؟
أخذت من الوقت والجهد 4 سنوات لسرد ما حدث لى وعشته بالصيغة التى أرتضيها، وكان ودى أن أشرك القارئ فى هم داخلى قد يتعاطف معه وقد لا يحبه، وليس أن أعطى درسًا لأحد.
وهل هناك أشياء أخفيتها فى سيرتك؟
نعم، لأننى أخذت العلامات التى ساهمت فى تأسيسى، واستطعت أن أحكى عن لحظة الحب الأولى، وتكوينى العائلى، والكتب التى أثرت فيا، ومنها كتاب ألف ليلة وليلة، وعلاقتى مع جدتى ووالدى ووالدتى، لذلك أطلقت عليها سيرة المنتهى، كما حكيت عن مشهد موتى، إذ صحبت جدى الذى يأخذنى إلى سدرة المنتهى لكنى لا أرى إلا نور، ثم يصطحبنى جدى لجدتى وأمى وأبى وحبيبتى الأولى.
عندما كتبت مشهد رحيلك ألم تخف أن يتهمك البعض بالتكفير؟
بالطبع خفت جدا أن يقتلنى الإسلاميون، لكننى أكتب ذلك بحب إلى الله، والآخرة بالنسبة إليّ شىء نورانى.
وهنا انتهى حديثنا ولكننا انصرفنا متوجهين لباب المعرض، حيث استغرق حوارنا حوالى 60 دقيقة، وكان واسينى الأعرج مرتبطا بموعد، وبالتالى لم يستطع التجول فى المعرض لكن خلال سيرنا سويا قال لى إن الكتابة شراكة بين الكاتب والقارئ، ويجب على الكاتب أن يكتب ما يشد القارئ، فمن الممكن أن يتحمل القراء للكتاب إصدارين ولكن بعد ذلك ينصرفون عنه إن لم يجدوا ما هو متميز بكتاباته، فالقارئ لا يرحم.
وهنا تبادلنا السلام بكل تواضع مه قائلا: أسعد برويتك فى الأيام المقبلة خلال فعاليات معرض الشارقة، وودعنى ليذهب إلى موعده.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة