محمد سلماوى يكشف فى مذكراته "يوما أو بعض يوم": المشاجرات بين الشيوعيين والناصريين داخل السجن.. وسبب سؤال أين أيام الواحات حين كنا ننتهك كل ليلة؟.. والكاتب الكبير يفصح عن كواليس كلمة السر "أخويا الأستاذ بدر"

الجمعة، 01 ديسمبر 2017 04:02 م
محمد سلماوى يكشف فى مذكراته "يوما أو بعض يوم": المشاجرات بين الشيوعيين والناصريين داخل السجن.. وسبب سؤال أين أيام الواحات حين كنا ننتهك كل ليلة؟.. والكاتب الكبير يفصح عن كواليس كلمة السر "أخويا الأستاذ بدر" الكاتب الكبير محمد سلماوى
كتب أحمد منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل، اليوم، نشر الحلقة الخامسة من السيرة الذاتية للكاتب الكبير محمد سلماوى والتى أطلق عليها "يومًا أو بعض يوم" الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، حيث روى فى الحلقة الرابعة حكاية مواجهة الموت داخل غرفة الإعدام، وكشف عن سر مراتب "التبن"، ومن هى "أم حسن" كاتمة أسرار المعتقلين بسجن الاستئناف، ويكمل سلماوى كلامه..

 

كتبت فى مفكرتى أنه فى مساء ذلك اليوم كانت المحاضرة لفيليب جلاب، وقد أعقبها - حسب ما هو مدون فى مفكرتى - تعليقات من أحمد الجمال ومحمد عواد ومحمد يوسف ومحمد سلماوى، دون أن أذكر موضوع المحاضرة أو مضمون التعليقات التى أعقبتها، ذلك أنها كانت حول فترة الاعتقال التى قضاها الشيوعيون فى السجن فى الفترة ما بين عامى 1959 و1962، التى كان أقساها فترة سجن الواحات الخارجة، وكان حديث فيليب شيقا وتضمن تفاصيل داخلية لم نكن نعرفها، لكنه أفاض فى وصف التعذيب النفسى والبدنى الذى تعرضوا له قائلا: إن معاناتنا الحالية لا تقارن بما تكبده الشيوعيون فى الواحات، وربما كان فيليب يهدف بذلك إلى التهوين عنا مما كنا نعانيه فى سجننا الحالى، خاصة أنه كان بيننا من الطلبة من كانت التجربة بالنسبة لهم أقسى بكثير مما كانت بالنسبة لنا، لكن أحمد الجمال لم يعجبه الحديث الذى وجد فيه هجوما على العهد الناصرى، الذى لا يكون معيار تقييمه هو ما حدث للشيوعيين فى الواحات، وأخذ يطرح معايير أخرى لتقييم الإنجازات غير المسبوقة التى تحققت بينما كان الشيوعيون فى السجن، وقد وافقه فيليب على ذلك وقال إنه كان يروى ما حدث ولم يكن يقيم العهد الناصرى الذى كان من المدافعين عنه، لكن أحمد لم يقتنع تماما بذلك  وكثيرا ما كان يتندر بحديث الواحات الماسوخى هذا، والماسوخية هى التلذذ بالعذاب، فكان يردد ساخرا على لسان فيليب: "أين أيام الواحات حين كنا ننتهك كل ليلة".

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

أما محمد عواد فقد شارك معى فى تهدئة النفوس، وقد كان زميل زنزانة فاضل حقا يراعى الجميع، ولم أره طوال فترة السجن إلا بشوشا دائم الابتسام، وكان حريصا كل الحرص على لم شمل الجميع والحيلولة دون نشوب أى خلافات بيننا، وهو صاحب اقتراح أننا إذا تحدثنا فى السياسة فيجب أن نحرص على ألا نتطرق إلى الخوض فى المذاهب السياسية حتى لا يحدث بيننا خلاف، فقد كان السجن يضم معتقلين من جميع الاتجاهات السياسية وفى مثل هذه الحالات كثيرا ما كان يثور الخلاف بين أصحاب المذاهب المختلفة مما كان يؤدى فى بعض الأحيان إلى الشجار الذى قد يصل إلى الإيذاء البدنى.

 

 

وقد حدث أنه كان هناك شاب صغير يأتى كل يوم إلى سطح أم حسن ليطلب الحديث إلى "أخويا الأستاذ بدر"، فكان يقال له إنه ليس بين المعتقلين أحدا بهذا الاسم، وأن عليه أن يبحث عن أخيه هذا الذى صدع أدمغتنا به، فى سجن آخر، لكنه كان يعود فى اليوم التالى ويطلب الحديث إلى "أخويا الأستاذ بدر" حتى تصورنا أنه مجنون إلى أن اكتشفنا أن "أخوه الأستاذ بدر" موجود معنا بالفعل وأنه محمد عواد المقرب إلينا جميعا والذى منعناه دون أن نقصد من لقاء شقيقه الأصغر عبر الشباك، فقد كان اسمه فى البيت هو بدر بينما كان محمد هو الاسم المدون فى بطاقته الشخصية.

 

 

للأسف إن مشاغل الحياة أخذتنا بعد ذلك ولم ألتق بمحمد عواد إلا قليلا بعد الخروج من السجن، لكنه كان دائم الاتصال فى الأعياد والمناسبات، ومنذ بضع سنوات علمت أنه توفى فجأة بأزمة قلبية فبكيت عليه وكانت كل دمعة من دمعاتى تحمل له ذكرى عطرة تركها فى نفوسنا جميعا.

 

محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧
محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير 1977

 

أما اليوم التالى فقد صحونا على حملة تفتيش مفاجئة، وكانت المهمة الأولى هى إخفاء مفكرتى، فادعى زميل عزيز أن لديه حالة إسهال شديدة، وأخذ يصرخ وهو يجرى إلى دورة المياه مخفيا النوتة داخل ملابسه، وظل فى الدورة إلى أن انتهت الحملة، وقد ظل بعض المساجين الآخرين يدقون عليه الباب بعد أن طال بقاؤه داخل الدورة ويهددون بأنهم سيقتحمون عليه الدورة إذا لم يخرج فى التو واللحظة، ثم كادوا يضربونه وهو يعود بسرعة للزنزانة بعد انتهاء التفتيش ليسلمنى المفكرة.

 

لكن أهم حدث فى اليوم ولمدة أيام مقبلة، كان ذلك الاكتشاف الجديد الذى كان بالنسبة لنا أهم من اكتشاف أمريكا أو رأس الرجاء الصالح، فقد اكتشفنا دورة مياه جديدة وصفتها فى مفكرتى بأنها كانت "شبه خاصة"، ولم أشرح أو أفصل كيف اكتشفناها، لكنى أتذكر جيدا أن ذلك كان بمعاونة بعض الشاويشية، لذلك لم يكن من الممكن أن أسجل هذا فى المفكرة. 

 

لقد كان هذا الاكتشاف نقطة تحول فى حياتنا بسجن الاستئناف بمثل ما حدث حين قام كريسوفر كولومبوس فى أواخر القرن الـ15، أو أميريكو فسبوتشى، أو فى رواية أخرى عرب الأندلس قبلهما بقرون، باكتشاف أمريكا. 

 

مفكرتي الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم
مفكرتى الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم

 

منذ ذلك اليوم انتهت معاناتنا الصباحية أثناء التسابق للوصول إلى دورة المياه، ولم نعد نقف على بابها أبد الدهر فى انتظار أن يأتى علينا الدور، وربما كان من فوائد السجن أنه يجعلك تقدر قيمة ما كنت تتمتع به خارجه لكنك كنت تعتبره أمرا مسلما به، سواء كان دورة مياه أو ملعقة بلاستيكية، فمن منا يعتبر أن دخوله دورة المياه كل صباح من النعم التى يتمتع بها؟ لربما قضينا سنوات حياتنا كلها دون أن نفكر للحظة فى تلك الخطوة التى نخطوها عبر عتبة الحمام والتى كانت فى السجن دونها الهوائل، إلى أن اكتشفنا قارتنا الأمريكية. 

 

كانت نازلى قد أحضرت لى أثناء الزيارة بعض.. وإلى الحلقة السادسة..







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة