كانت الساعة التاسعة والنصف صباح يوم 11 ديسمبر (مثل هذا اليوم) 1954، حين بدأت المحكمة العسكرية محاكمة المتهمين فى «شبكة التجسس اليهودية»، التى ارتكبت أعمالا تخريبية فى مصر والمعروفة تاريخيا وإعلاميا بـ«فضيحة لافون»، وحسب كتاب عملية سوزانا، أولى عمليات الموساد السرية فى مصر تأليف: عادل حمودة، عن «دار الشباب - القاهرة»، فإن هذه الشبكة ارتكبت 7 عمليات تخريبية فى القاهرة والإسكندرية وهى:
فى 3 يوليو 1954، اندلعت النيران فى صندوقين للبريد فى مبنى البريد الرئيسى بالإسكندرية، وعثر على طرد أسطوانى يمتلئ بالمواد الحارقة فى صندوق آخر للبريد بالقرب منهما، وفى يوم 15 يوليو تم اكتشاف وجود قنابل حارقة فى مكتبة المركز الثقافى الأمريكى بالقاهرة، وفى ليلة 14 يوليو اندلعت النيران فى المركز الثقافى الأمريكى بالإسكندرية، وفى ليلة 23 يوليو كان رجل بوليس فى خدمته عند سينما ريو بالإسكندرية، عندما اعتقل داخل السينما شابا أحرقت النيران ملابسه، وقام ضابط بتفتيشه فوجد فى أحد جيوب بنطلونه علبة زجاجية تحتوى على بقايا مواد قابلة للاشتعال من النوع الذى وجد فى الحرائق السابقة، وبالتحقيق معه تبين أنه يهودى اسمه «هرمان ناتانسون» وعمره 21 عامًا، وفى مساء يوم 25 يوليو عثر البوليس على قنبلة مشابهة فى سينما ريفولى، وتكرر نفس الأمر فى سينما راديو، وفى محطة سكك حديد القاهرة، حيث تم وضع قنبلة حارقة فى حقيبة.
وقعت هذه الأحداث بعد نحو عامين من قيام ثورة 23 يوليو 1952، وتبين أن إسرائيل تقف وراءها، والسبب خوفها من احتمالات تطور العلاقة بين البلدين، وفقا لمحمد حسنين هيكل، مضيفا فى كتابه «ملفات السويس»: أعدت المخابرات الإسرائيلية (الموساد) خطة لإساءة العلاقات بين البلدين، وأقرها ديفيد بن جوريون، رئيس الوزراء، وطلب وضعها فى شكلها التنفيذى الأخير، ويؤكد هيكل: «قبل التنفيذ ترك» بن جوريون الوزارة، ولم يتورع أعوانه وبموافقته من تزوير إمضاء «بنحاس لافون» وزير الدفاع الجديد فى وزارة «موشى شاريت» على الأوامر التنفيذية للعملية، رغم أنه لا وزير الدفاع الجديد ولا رئيس وزرائه الجديد كانا يعرفان شيئا عن هذا».
أدت اعترافات «ناتانسون» إلى الوصول للشبكة، وحسب هيكل: «ظهر أن أفرادها تدربوا فى إسرائيل على عمليات التخريب، وكان أسوأ ما فى الموضوع أن الجالية اليهودية فى مصر، التى ظلت لسنوات طويلة - تحت الرئاسة الروحية للحاخام» حاييم ناحوم (أفندى)- بعيدة عن كل نشاط صهيونى، استسلمت أخيرًا وسمحت للمخابرات الإسرائيلية باختراقها، وتركت عددا من أفرادها يعملون ضد الوطن، الذى عاش فيه اليهود قرونًا طويلة آمنين سالمين بغير تميز أو تعصب ضدهم».
بعد شهرين من التحقيقات تم الإعلان عن قرار الاتهام، وبدأت المحاكمة فى دار القضاء العالى يوم 11 ديسمبر 1954، وترأس اللواء محمد فؤاد الدجوى هيئة المحكمة العسكرية، ووفقا لحمودة: «جاء المتهمون فى حراسة مشددة، وانتدب 14 محاميًا للدفاع عنهم لاستكمال الشكل القانونى، وكان من بينهم الدكتور جمال العطيفى (وزير الإعلام من 9 مارس 1967 -6 فبراير 1977)، وازدحمت مقاعد الجمهور فى قاعة المحكمة، فالإقبال كان شديدًا، خاصة من أعضاء الهيئات الدبلوماسية والمراقبين، والصحفيين الأجانب، ومبعوثى منظمات حقوق الإنسان والحريات المدنية فى أوروبا الغربية، وأمريكا، وكان من بين الحضور أيضًا إنجى سميث، ضابط الأمن الإقليمى فى السفارة الأمريكية بالقاهرة».
بلغ عدد المتهمين 13 يهوديا، وينقل حمودة: «افتتح رئيس المحكمة الجلسة قائلا: «باسم الله، والشعب»، وسأل المتهمين: هل هناك اعتراض على المحكمة؟، فلم يعترض أحد، وطلب ممثل الادعاء أن تكون الجلسات سرية، فاعترض الدفاع، وقال المحامى صلاح الدين حسن: إن المصريين لا يعلمون شيئا عن الجاسوسية، ولعل ما يدور فى أثناء هذه المحاكمة يفتح أعينهم على ما يجرى حولهم»، وقررت المحكمة أن تكون الجلسات علنية إلا إذا وجد ما يدعو إلى السرية، وفيما بعد لم تفرض المحكمة السرية إلا فى جلسة واحدة»، ويضيف حمودة: «قال رئيس المحكمة: إذا تلعثم أى متهم فى اللغة العربية يتكلم باللغة التى يتقنها، ومن يريد أن يدلى بشهادة باللغة العبرية فليتفضل، فأنا أحسنها، ثم سأل كل متهم على حدة: هل أنت مذنب؟، فأجاب الجميع بالنفى، ماعدا موسى ليتو مرزوق الذى قال: أنا غلطان، ولكن مش بالصورة دى اللى جت فى الادعاء، واعتبرت المحكمة أن إجابته «غير مذنب»، ولوحظ أنه على منصة المحكمة، القرآن، والتوراة والإنجيل، لاستحلاف المتهمين والشهود، الذين كانوا خليطًا من المسلمين والمسيحيين واليهود».