"لن نسمح بأى محاولة لعرقلة إرادة الشعب البريطانى الديمقراطية، عبر محاولة إبطاء أو ايقاف انسحابنا من الاتحاد الأوروبى، سنودع الاتحاد فى 29 مارس 2019"، بهذه الكلمات التى كتبتها فى صحيفة "دايلى تيليجراف" فى مطلع نوفمبر، جددت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى، عزمها خروج بلادها من كنف القارة العجوز، وحسم الجدل أمام جميع المحاولات الداخلية والخارجية لإثنائها عن القرار الذى أثار كثير من الجدل فى الأوساط العالمية والمحلية.
ومع ظهور بوادر بإعلانها انسحاب بلادها من السوق الموحدة، والوحدة الجمركية الأوروبية، ومحكمة العدل الأوروبية، قريبا، أعلنت ماى، رغبتها فى ما وصفتها بـ"شراكة منصفة"، دون أن تكون بريطانيا عضوا أو شريكا للاتحاد.
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى
عواقب وخيمة ونزوح شركات.. الجميع مهددون
فى نهاية أكتوبر الماضى، حذر البنك المركزى البريطانى، من خسارة ما يقرب من 75 ألف وظيفة فى القطاع المصرفى بلندن فقط، حال فشل مفاوضات التوصل لاتفاقية تجارة مع الاتحاد الأوروبى، داعيا المؤسسات المالية للاستعداد لخطط بديلة لتفادى الخسائر المحتملة.
واعتبر محافظ البنك مارك كارنى، فى تصريح منتصف نوفمبر، محافظ بنك انجلترا "البنك المركزى"، أن التصويت بالموافقة على "بريكست" أضر بالاقتصاد الوطنى، حيث كانت إنجلترا الدولة الأفضل فى مجموعة الدول السبع الصناعية قبل الاستفتاء، قبل أن تصبح أسوأهم أداء فى الفترة الأخيرة.
محافظ البنك المركزى فى انجلترا
التخوفات لم تنته عند هذا الحد، حيث كشف تقرير غير معلن لوزارة الخزانة البريطانية عن حدوث صدمة اقتصادية محتملة حال الخروج من الاتحاد دون صفقة، فى خيار هو الأسوأ للمملكة، كما تخشى دوائر المال والأعمال فى بريطانيا وأوروبا من تأثير تعثر المفاوضات على زيادة الرسوم على الصادرة والواردات، واختلال الاتفاقيات التجارية، ما قد يضر بمصالح الجميع.
وقالت المديرة العامة لاتحاد الصناعة البريطانية "سى بى آى"، ورئيسة أكبر جماعة ضغط مرتبطة بدوائر المال والأعمال البريطانية كارولين فيربيرن، فى تصريح لشبكة "بى بى سى"، إن تلك الدوائر تحمل شعورا متزايدا بالحاجة إلى التوصل إلى اتفاق انتقالى بحلول نهاية العام للإبقاء على الاستثمارات والوظائف.
تهديد السوق البريطانية أيضا عبر عنه رئيس مجلس إدارة شركة "جولدمان ساكس"، لويد بلانكفين، الذى أعلن نيته البقاء مدة أطول فى فرانكفورت بعد الانفصال البريطانى، وهو ما رآه عمدة لندن صادق خان تعبيرا عن ضبابية المشهد الحالى، ولسان حال لما يشعر به جميع رجال الأعمال والمستثمرون فى بريطانيا.
بريطانيا على خطوات الخروج من التكتل الأوروبى
الأمر ذاته طال سوق السيارات، فقال رئيس جمعية صانعى وتجار السيارات البريطانية مايك هاوز، إن شركات "تويوتا" و"أستون مارتن" و"نيسان" و"مكلارين"، طالبت بوضوح قواعد التجارة البريطانية الجديدة مع أوروبا، قبل الالتزام باستثمارات جديدة داخلها، فى الوقت الذى انخفض تصدير السيارات من المملكة المتحدة - الذى يمثل 80% من الإنتاج بنسبة 1.1%، كما انخفض نشاط الشراء المحلى بنسبة 14%.
كما أعلن العديد من شركات الأغذية – خاصة الشيكولاتة - زيادة سعر منتجاتها أو تقليص حجمها لمواجهة ضغوط السوق والنقد الأجنبى وأزمة المواد الخام، فى الوقت الذى تواصل تراجع الجنيه الإسترلينى أمام الدولار منذ الاستفتاء.
صراع فى الجبهة الداخلية.. عنصرية ودعوات انفصال
الخسائر البريطانية لم تصل إلى الاقتصاد فقط، بل تبعتها موجة من الدعاوى الانفصالية من أسكتلندا وآيرلندا تخوفا من تأثرهما بالانفصال عن الاتحاد الأوروبى، وهو ما عبر عنه البرلمان داخل كل منهما بالتصويت برفض "بريكست"، وهو ما دعمه تصريح رئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا ستيرجن، التى اتهمت بريطانيا بتجاهل بلادها وعدم إطلاعها على تفاصيل خطة الانسحاب من الاتحاد، وأكدت أن البقاء فى السوق الأوروبية الموحدة يعد أولوية لبلادها، معلنة عزمها إجراء استفتاء جديد حول الاستقلال عن المملكة المتحدة بين أواخر 2018 وأوائل 2019، قبل أن تؤجل القرار إلى خريف 2018.
اسكتلندا
اسكتلندا وتقرير المصير
وعلى درب اسكتلندا، دعا "شين فين" أكبر حزب قومى آيرلندى، إلى استفتاء لانفصال آيرلندا الشمالية عن بريطانيا، واتحادها مع جمهورية آيرلندا، اعتراضا على تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبى، فيما يصر الاتحاد – بحسب ما تناقلت وسائل إعلامية أجنبية - على حصول آيرلندا الشمالية على حكم ذاتى وسياسة تجارية وجمركية مستقلة بعد "بريكست"، لاستمرار عملها بالقواعد الأوروبية.
فيما أبدت آيرلندا استعدادها لمنع بريطانيا من الانسحاب من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، نظرا لمخالفة هذا الخطوة اتفاق بلفاست الذى أنهى التوتر بين البلدين، مع تزايد قلقها على مصير حرية الحركة مع جارتها الجنوبية، التى تنتمى إلى الاتحاد.
ومع خروجها تحديدا لتحجيم الهجرة، كشفت دراسة لمعهد العلاقات العرقية فى ديسمبر 2016، عن أن "بريكست" وراء الاعتداءات العنصرية التى شهدتها بريطانيا منذ الاستفتاء، حيث ارتبط 51 من بين 134 حادثا عنصريا فى الشهر الذى تلى الاستفتاء بحملة الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبى، كما تعرض مؤيدو البقاء لأعمال عنف مماثلة، كما أحصى المجلس الوطنى لمفوضى الشرطة أكثر من 3 آلاف شكوى لحوادث عنصرية بين 16 و30 يونيو 2016، بزيادة قدرها 42% مقارنة مع الفترة نفسها من 2015.
والمؤيدون يعددون المكاسب
وعلى الرغم من تصريحه بتخوفه من تضرر المملكة، قال محافظ بنك إنجلترا مارك كارنى إن الاقتصاد البريطانى أبلى بلاء حسنا على غير المتوقع بعد "بريكست"، معتبرا أن توقعاته السابقة قبل التصويت، بشأن إمكانية حدوث ركود، دفعته لمناصرة جبهة الخروج من الاتحاد الأوروبى بعد قياس مؤشرات الاقتصاد البريطانية الحالية، حسب تعبيره.
كما أوضحت مجموعة "تغيير بريطانيا"، أن إلغاء عضوية بريطانيا من السوق الأوروبية والاتحاد الجمركى قد يدعم الاقتصاد بأكثر من 38 مليار استرلينى سنويا، وهو ما عبر عنه النائب شارلى ألفيك، قائلا إن القرار سيحمى بريطانيا من "دفع المليارات للبيروقراطية المتضخمة فى بروكسل" ويمكنها من استعادة السيطرة على الحدود، وضبط الهجرة من مواطنى دول الاتحاد، ما يعنى إنفاق الأموال فى ما يهم الشعب البريطانى"، على حد قوله.
فى الوقت ذاته، توقعت الحكومة البريطانية تعيين ما يصل إلى 8 آلاف موظف بحلول 2018، مع محاولات تسريع الخروج من الاتحاد الأوروبى، حيث تتوقع إدارة الجمارك تعيين 3 إلى 5 آلاف موظف إضافى العام المقبل، فيما تم الإعلان عن 3 آلاف وظيفة أخرى بالفعل فى مختلف الإدارات الحكومية للعمل على ملف "بريكست"، بينهم 300 محام.
أوروبا تؤمن مصالحها
القرار البريطانى ألقى بظلاله على الدوائر الأوروبية، التى تعقدت حساباتها فى الفترة الأخيرة من احتمالات وآثار هذا التوجه، فباتت تسعى لتأمين مصالحها والخروج بأقل خسائر من هذه الأزمة، حيث كشف تقرير للمفوض الأوروبى جونتر أوتنجر، عن أن مغادرة المملكة ستؤدى إلى نقص فى الإيرادات بحجم 10 مليارات يورو سنوياً، مع الحاجة إلى تمويل مهام جديدة، مثل الدفاع، والأمن الداخلى، متوقعا زيادة الفجوة الكلية إلى ضعفى هذا المبلغ.
وفيما تعهد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، بحسب "فرانس برس"، بالتوصل إلى اتفاق متوازن حول الخروج البريطانى، أكد رئيس وزراء مالطا جوزف موسكات، الذى تولت بلاده الرئاسة الدورية السابقة للاتحاد، أن وضع بريطانيا يجب أن يكون "أدنى مما كان عليه عندما كانت بلدا عضوا"، مضيفا أن "هذا لن يكون مفاجأة لأحد"، وأن "التفكير فى غير ذلك يعنى الانفصال عن الواقع".
يونكر وماى
وعلى الرغم من اعتزام بريطانيا فرض قيود على العمالة الأوروبية، والحد من وصول أفراد أسر الأوروبيين بعد دخول "بريكست" حيز النفاذ، حسب ما كشفت صحيفة "جارديان"، أكدت حكومة المملكة سعيها إلى إبرام معاهدة أمنية جديدة مع الاتحاد، للتعاون فى مجال مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، بعد تفعيل "بريكست"، فيما أمهلها رئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك، حتى أوائل ديسمبر المقبل، لإحراز تقدم فى المحادثات الخاصة بقضايا الخروج من الاتحاد، ومن بينها التسوية المالية والحدود الآيرلندية، حال رغبتها فى الانتقال إلى المرحلة المقبلة من المفاوضات.
مكسب عربى.. وشراكات محتملة
إغلاق السوق الأوروبية أمام بريطانيا، فتح شهية أسواق أخرى لدخول المنافسة وتحقيق أكبر قدر من المكاسب استغلالا لتطورات "بريكست"، فأوضحت الرئيس التنفيذى للغرفة التجارية العربية – البريطانية أفنان الشعيبى، وجود فرص فى تدشين مشروعات اقتصادية طموحة بين الدول العربية والمملكة المتحدة، لافتة إلى دخول هذه الشراكة حقبة جديدة من الانفتاح.
تصريحات الشعيبى، خلال الاحتفال بالذكرى الرابعة لتأسيس الغرفة فى منتصف نوفمبر، عززتها بأرقام صادرة عن المكتب البريطانى للإحصاءات الوطنية، من بينها وصول حجم الصادرات البريطانية للأسواق العربية إلى 18.7 مليار جنيه إسترلينى فى 2016، متجاوزة صادرات الصين والهند والبرازيل مجتمعة (18.6 مليار جنيه إسترلينى).
كما طمأنت رئيسة الغرفة البارونة سيمونز، المستثمرين العرب تجاه سوق العمل فى المملكة المتحدة بعد "بريكست"، مؤكدة أهمية التجارة لبريطانيا للحفاظ على علاقات الصداقة والاستقرار، فيما لفت الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجى عبد اللطيف بن راشد الزيانى، إلى حرص الجانبين البريطانى والخليجى على الارتقاء بمستوى العلاقات الثنائية عبر الحوار الاستراتيجى الذى بدأ فى 2012، مشددا على أن خطة العمل المشترك التى أقرها الجانبان للفترة من 2015 إلى 2018 تعد خريطة طريق للتعاون فى جميع المجالات.
القرار ذاته ساعد تركيا أيضا على تطوير علاقاتها مع المملكة، وهو ما عززته زيارة تيزيرا ماى إلى أنقرة فى يناير الماضى، عقب عودتها من زيارة واشنطن والاجتماع بالرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مؤكدة أنها شريك لا غنى عنه وحليف كبير لبريطانيا فى العديد من الملفات.
كما أوصت لجنة الشؤون الخارجية فى مجلس العموم أيضا فى مارس الماضى، بزيادة حجم التعاون مع تركيا، خاصة فى قضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب، باعتبارها قوة إقليمية ذات أهمية محورية، فيما قد يدفع هذا الخروج أنقرة إلى إعادة طرح ملف عضويتها فى الاتحاد الأوروبى الذى كانت تعارضه بريطانيا فى السابق، ليتجدد أملها فى طرق باب "البيت الأوروبى".
إسكات المشككين وتأمين صفقات المرحلة الأولى
لم ينتهى عام 2017 دون أن يعطى رئيسة الوزراء البريطانية بارقة أمل بتأمين الاتفاق مع بروكسل فى المرحلة الأولى من المحادثات والانتقال إلى المرحلة الثانية المتعلقة بالتجارة.
الأمر الذى ساعد ماى على إسكات المشككين فى تعاملها مع مفاوضات الانسحاب من الاتحاد الأوروبى على حد وصفها وبنغمة تحد لخصومها السياسيين، أكدت ماى، فى مقال نشرته صحيفة "ذا تليجراف" البريطانية، أنها نجحت فى إحراز تقدم فى مفاوضات "بريكست" رغم هؤلاء الذين يريدون أن "يستخفوا ببريطانيا"، مؤكدة أنها لن تتم عرقلتها فى جهودها للتفاوض بشأن الشروط الحاسمة لـ"بريكست".
وقالت "ذا تليجراف" إن ماى كسبت رصيدا شخصيا بإقناع القادة الأوروبيين بالانتقال إلى المرحلة الثانية من المحادثات، وذلك بعد 6 أشهر من الاضطراب والجمود الذين اكتنفا عملية التفاوض الأمر الذى عززه وزير الخارجية البريطانى بوريس جونسون عن ضرورة أن تبرم بلاده اتفاقا تجاريا قويا مع الاتحاد الأوروبى بعد الخروج من الاتحاد مع تجنب أن تصبح دولة تابعة للتكتل الأوروبى.
وقال جونسون - فى مقابلة مع صحيفة (صنداى تلجراف) البريطانية - إن الإخفاق فى التخلى عن قوانين الاتحاد الأوروبى سيجعل من المملكة المتحدة "دولة تابعة"، مضيفًا أنه سيدفع بمسألة "الخروج الحر لبريطانيا من الاتحاد الأوروبى"، وذلك فى إطار مداخلة جديدة فى النقاش المقرر الفترة المقبلة والذى سيصب فى صالح مغادرة الاتحاد الأوروبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة