لعل أهم ما يسترعى الانتباه فى كتاب بول ريكور "الذاكرة والسرد"، الصادر عن دار كنوز المعرفة فى الأردن بترجمة ومقدمة متميزة للناقد الكبير الدكتور سمير مندى، هو الحديث عن أزمة السلطة. فمتى كانت السلطة فى أزمة وهو ما يحيلنا إلى عنوان داخلى أراه غاية فى الأهمية هو أزمة السلطة التى ترجعنا إلى كتب أخرى تعمقت فى هذه الفكرة منها كتاب الفين توفلر "تحول السلطة"، الذى صدر عن سلسلة الألف كتاب "الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996"، والذى يرسخ لفكرة عصر سلطة المعلومات أو تكتيكات المعلومات (حسب ما ورد فى الكتاب) التى تنزاح أمامها كل العصور السالفة عليها، وهو ما حدث بالفعل من ثورة معلوماتية عبر الوسائط الإلكترونية المختلفة التى انتشرت انتشار النار فى الهشيم منذ منتصف التسعينيات حتى الآن ولا يزال التقدم التكنولوجى وشبكات التواصل الاجتماعى المتباينة هى التى تفرض نفسها على العالم ولا يستطيع فرد أو جماعة الاستغناء عنها.
كتاب "الذاكرة والسرد" للفيلسوف الفرنسى بول ريكور (1913 – 2005 ) يتضمن حوارات مهمة حول مسار ريكور الفلسفى الذى زاوج فيه بين عدة علوم إنسانية مختلفة باذلاً أقصى جهد فى الربط بين "السرد والتاريخ"، أو كيف تكون قصص الحياة دافعا لاستمرار الحياة نفسها، بمعنى أن الحدث التاريخى مثل الأحداث الكبرى التى مرت على البشرية كفعل المحرقة الذى فعله هتلر باليهود أو قصف مدينتى هيروشيما وناجازاكى فى نهاية الحرب العالمية الثانية ما هى إلا أحداث تاريخية تمثل دربا من سرد الزمن الماضى والمسافة الفاصلة بين ذلك الماضى وحاضرنا الآنى هى التى تحذرنا من تكرار أفعال ذلك الماضى البائد.
إن الطريقة التى ظهر بها كتاب "بول ريكور – الذاكرة والسرد" تحيلنا إلى المنحى نفسه الذى اتخذه الناقد الأردنى الكبير فخرى صالح فى كتابه الشائق عن المفكر الراحل إدوارد سعيد عبر حوار ممتد أجراه معه صالح ثم أصدر صالح بعده كتاب "دفاعًا عن إدوارد سعيد"، الذى فند فيه مزاعم اليهود ضد فلسفة سعيد وتأثير أفكار سعيد على الغرب عبر مجموعة من الدراسات التى ترجمها فخرى صالح بحرفية وفهم شديد أفاد القارئ من ناحية وفند تلك المزاعم ورد عليها من ناحية أخرى.
ولأننى مهتمة بقدر كبير بفكرة السلطة التى هى المحرك لكل ما ينضوى تحتها حيث سلطة الحاكم على المحكوم فإن رأى ريكور فى كتاب الذاكرة والسرد حسب تصورى أهم ما ظهر فى الكتاب على الرغم من تعدد المسارب التى تحدث فيها ريكور عبر إثارة التساؤولات التى طرحها عليه تلميذه ريتشارد كيرنى وعلى صعوبتها التى أُوقنها بحكم عملى فى المجال نفسه وقد ترجمها باقتدار ولغة مفهومة وبليغة الناقد الكبير الدكتور سمير مندى. يرى ريكور أننا نحيا زمن الأزمات (بالطبع نحيا الآن زمن الأزمات الأكبر باعتبار وفاة ريكور 2005) الكبرى: أزمات الهوية، أزمات الشرعية، أزمات السلطة، وقد سأله تلميذه كيرنى إلى أى مدى يمكن أن تكون الفلسفة أفضل رد على أجواء الأزمات هذه؟
فكان رد ريكور خير معلم حيث قرر أن السلطة هى مفتاح وسر كل المشاكل فى عالمنا، فمن جل الحق أن تكون محكوما أو مطاعا بلا شرعية لأن الشرعية هى مشكلة السلطة الكبرى خصوصا بعد سنة 1970 حيث بدأت الشكوك تحوم حول كل صاحب سلطة من أن الخضوع هو أهم ما يجب أن يقدمه إليه من تقع عليه هذه السلطة. وهنا يظهر قدر من الجمود الاجتماعى، حيث لم يعد استساغة الفرد لأفعال السلطة وعندئذ تتهدد فكرة المشروعية، حيث تحتاج كل سلطة إلى المشروعية التى تاخذها عبر من يقع عليه سلطتها. إذن السطلة قديمة وطريقتها مكرورة اعتيادية ولديها ما يكفى من تاريخ طويل يجعلها بطريقتها التقليدية دائما قارة فى الذاكرة. لأن مشكلة السلطة بالأساس مشكلة سيادة ومن فى القمة يقر فى ذهنه أنه لا يوجد أعلى منه دون أن يُقدّر أن الواقع عليه سلطته صار فى العصور الحديثة لا يقبل الطريقة التى تمارسها عليه تلك السلطة العليا.
عندما ظهر كتاب بول ريكور "الزمان والسرد" الذى يقع فى ثلاثة أجزاء ويعد مصدرا أساسيا لكل دارسى السرد وفلسفة الحكى، وقد استفاد منه كل باحث فى المجالين الفلسفة والسرد، ظننت أن معين الرجل قد نضب، أو أن الفيلسوف بول ريكور قد قال كلماته الأخيرة، لكن ظهور كتاب "الذاكرة والسرد" الذى هو حوار فلسفى تاريخى سردى بينه وبين تلميذه ريتشارد رينى أكد أن المفكر حى الذاكرة دائما ذاكرته منتعشة، وهذا الانتعاش يقدم أفكارا تجدد الفكر وتفيد قارءه وتغمره بالمعلومات عبر طرح القضايا الفلسفية والنقدية والاجتماعية والسياسية التى انشغل بها ريكور نفسه وأخلص للتنظير فيها خاصة الربط المعجز الذى أقامه بحجة ودلالة بين الزمان وعلاقته بالوجود والسرد ثم مسألة الابتكار الدلالى وإبداعية اللغة وأخيرا العلاقات الشائكة بين السرد الخيالى والسرد التاريخى بما يؤول الى علاقة السرد والأسطورة بالذاكرة. كتاب بول ريكور "الذاكرة والسرد" يستحق القراءة للتعلم ثم معاودة القراءة من أجل متعة القراءة وانعاش الذاكرة وفهم مجريات اجتماعية وسياسية عالمية تدور فى العالم الذى نعد جزءا غير فاعل فى مجرياته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة