حازم حسين يكتب: كيف تُشوه وجه الثقافة فى 15 يوما؟.. الإدارة بالشلة والتسطيح وغلبة الكرنفالية.. تصدر الهواة والفوضى ونزيف الاعتذارات.. غياب الرؤية وإهانة مصر بالندوات.. فمن المسؤول عن كوارث معرض الكتاب؟

الثلاثاء، 07 فبراير 2017 07:37 م
حازم حسين يكتب: كيف تُشوه وجه الثقافة فى 15 يوما؟.. الإدارة بالشلة والتسطيح وغلبة الكرنفالية.. تصدر الهواة والفوضى ونزيف الاعتذارات.. غياب الرؤية وإهانة مصر بالندوات.. فمن المسؤول عن كوارث معرض الكتاب؟ معرض الكتاب والدكتور هيثم الحاج على

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل شاهدت دورات المياه فى معرض القاهرة الدولى للكتاب؟ إن لم تكن فعلت هذا، فأنت لم تر المعرض ولم تضع يدك على مستواه، ودعك من المقارنات السطحية التى تتحدث عن التراكم وميراث المشكلات وبيروقراطية الماكينة المؤسسية، الأصل فى الأمور أن تعمل الإدارة الجديدة على تلافى سلبيات سابقاتها، بينما فى الحقيقة يتراجع المعرض عاما بعد عام، ونقف فى 2017 مترحمين على سمير سرحان ومعارضه، وبالمناسبة، مات سمير سرحان فى يوليو 2006، وكانت دورة العام المذكور آخر ما أشرف عليه، واليوم، وبعد أكثر من 10 سنوات، ما زال الأنجح والأكثر تنظيما ووعيا ورؤية، وهذه مأساة - لو تعلمون - عظيمة ومرعبة.

معرض الكتاب والدكتور هيثم الحاج على
معرض الكتاب والدكتور هيثم الحاج على

 

المدخل الذى بدأتُ منه لمساءلة حصاد معرض الكتاب فى دورته الأخيرة، والوقوف على أطلاله وما جنته عليه أيدى سادته والقائمين على شأنه، والولوج إلى جوهر المعرض وهيكله العام، من باب دورة المياه، ليس تورية ولا مجازًا لغويًّا يرمى إلى أن دورات المعرض فى السنوات الأخيرة أصبحت لا تختلف عن دورات المياه، ليس هذا مرماى فى الحقيقة، وبعيدًا عن كون مدخلى المختار انحيازًا للثقافة بالمعنى الأنثربولوجى، الذى لا تستقيم رؤيته العامة والمركزية بعيدًا عن أفرعه وتفاصيله، إذ لن تنصلح السرديات الثقافية الكبرى ما لم تنصلح البيولوجيات الصغرى، إلا أننى قصدت من هذا المدخل تأشيرًا على وجهة أخرى، سيطرت على المعرض ووعى القائمين عليه، الذين تفشّت فيهم روح الهواية والكرنفالية والخفة والسطحية والاستعجال، فطبخوا برنامجًا مشوّهًا، ونفذوه بطريقة لا تقل تشوّهًا عن طبخه، وأهملوا كل أساس وركيزة وركن ركين، لقاء أن يخرج المهرجان الذى أرادوه أخّاذًا وخاطفًا للعيون، لا يهم الفعل الثقافى الحقيقى، ولا يضر الانحراف بالمعرض وفلسفته، من كونه سوقًا للكتاب وساحة لتداوله، بين الأفراد والمؤسسات، ليصبح مجرد "مولد شعبى" أو زفّة، ترضى طموح من يحبون ثقافة البروباجندا والصوت العالى والجعجعة دون طحن، لهذا كان طبيعيًّا أن ترى قاعات منمّقة، ودورات مياه قذرة، بينما كان الجمهور أكبر وأكثر حضورًا فى الأخيرة للأسف.

معرض الكتاب
معرض الكتاب

 

غياب الرؤية وعشوائية التخطيط والتنفيذ.. المعرض فى قبضة الهواة

فى دورته الثامنة والأربعين، وقبل سنتين من احتفال المعرض الذى انطلق عام 1969 بيوبيله الذهبى، كان يُفترض أن نقف على بداية طريق واسعة وممهدة للتطوير والتحديث، وقطع خطوات لامعة باتجاه الاستعداد للاحتفال، مع تجديد شباب المعرض، وبينما اختار القائمون عليه عبارة "الشباب وثقافة المستقبل" شعارا له، لم يغادر هذا الشعار موقعه كجملة لغوية وإشارة بصرية على لافتات المعرض ومطبوعاته، بينما كرّس المعرض والقائمون عليه بكل طاقاتهم لعكس هذا.

 

الجرد البسيط والمباشر لخزينة المعرض، يثبت بالأرقام، وبما لا يدع للشك مجالاً، أن الشباب حضروا على الهامش، ولن نستشهد بالحقائق الإحصائية بشأن احتلال الشباب لنسبة تتجاوز 60% من الخريطة السكانية والديموغرافية للمجتمع المصرى، ولا بالحقائق الثقافية القاطعة بتصدرهم للمشهد الأدبى والإبداعى اليومى، من ناحية الكم، والكيف أحيانا، الأرقام كلها لن تشفع فى وجه احتفالية، أراد القائمون عليها، وهم نظريًّا من الشباب، أن ينتزعوا صكّ الشرعية وتحقق الذوات التى عانت طويلاً من التهميش، بالاختباء فى ظل الأسماء الكبيرة وأصحاب الشعر الأبيض والمشروعات الإبداعية الجافة، هكذا تخيلوا أن وجاهة فى الأمر يمكن أن تتحقق بسيطرة الآباء والأجداد على فضاء المعرض، بينما يسيطرون هم على لجامه وقياده.

 

فى أغلب فعاليات المعرض، التى وصل عددها إلى 822 فعالية، وفى هذه وحدها كارثة كبيرة سنتوقف أمامها، حضر الشباب كدبابيس وورود فى "عروة جاكت" الهيئة ورئيسها ولجنة المعرض وكبار الضيوف و"المعرضيين"، فى اللقاءات والندوات والموائد المستديرة والأمسيات الشعرية، باستثناء محاولة هنا أو هناك لذرّ الرماد فى العيون، والتعمية على التصور المتحفى الذى تحركت من خلاله لجنة المعرض، كأن تحتمى هيئة قصور الثقافة فى عنوان هامشى، صياغة وتحقيقا، باستدعاء عدد من شباب الشعراء، تحت لافتة "شعراء الجامعات"، ونفيهم فى مخيم قصور الثقافة فى موعد ميّت، الثانية عشرة ظهرا، ليؤكد هذا الانحياز نفسه أن الشباب، وهم هنا من الأعواد الخضراء الذين يحتاجون للاحتكاك والاتصال بسابقيهم وآبائهم، يحضرون كموتيف جمالى لا أكثر، وكانتصار مجانى ورخيص لفكرة الكرنفالية والتمثيل الواسع والصياغة المهرجانية لأكبر سوق كتاب بالشرق الأوسط.

عدد الفعاليات فى المعرض يحتاج وقفة جادة وحقيقة، وبصدق فإنه إن كان يؤشر على شىء، فإنه يؤشر على أن القائمين على المعرض، وفى القلب منه لجنته العليا ومجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب، يجهلون دور معرض الكتاب وفلسفته، وحقيقة المنوط به من مهام ومسؤوليات، فبينما لم تهتز لهم شعرة لتراجع عدد دور النشر، قياسا على الدورة السابقة التى تولتها نفس الوجوه، بما يتجاوز 200 دار، تفاخروا ورفعوا عقيرتهم "عنطزة" وانتفاخا بارتفاع عدد الفعاليات الكرنفالية بما يتجاوز 200، لتصل إلى 822 فعالية، بعيدًا عن كون الحصة الأكبر منها صيغت لوجه المجاملة وترضية الأصدقاء والأخلاء، وغاب عنها العمق والتأسيس الثقافى الفاعل وبوصلة التوجيه الواعية، إلا أنها فى الوجه الاجتماعى و"المجاملاتى" نفسه جاءت خفيفة وسطحية، وغاب عنها الحضور، من الجمهور العادى ومن المثقفين أنفسهم، فكانت لقاءات بين المنصات والكراسى الفارغة، ولكن هذا نفسه لا يهم، فالهيئة انحازت منذ البداية للعناوين الكثيفة والمتداخلة، وزحام وفوضى الأنشطة والفعاليات، والمهم تواتر الصور والأخبار والأسماء فى صفحات الجرائد والمواقع وعلى شاشات التليفزيون، أما حضور الجمهور وأثر هذا "المولد" فليس أمرًا مهمًّا، المهم أن يعيش القياصرة الجدد ويثبتوا نجاحهم ليواصلوا بقاءهم الرابح فى إقطاعية الثقافة.

 

اعتذارات وأخطاء وسحب مطبوعات.. حضر الاستعراض وغاب "الكتاب"

أبرز الملامح السلبية التى يمكن الوقوف عليها فى معرض هذا العام، تتصل بالقصور الشديد الذى أصاب الهيئة العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، بوصفهما أكبر ناشرين رسميين فى مصر، فى دوريهما الأساسيين، لتتكرر الأخطاء السنوية المعتادة لتأخير العناوين الموضوعة ضمن خطة النشر، وطباعة عناوين أخرى بأشكال وصور خاطئة، وسحب مطبوعات بعد طرحها فى أجنحة العرض، وهو ما تكرر مع أكثر من كتاب، منها كتاب "الثابت والمتحول" للشاعر والمثقف السورى أدونيس، بل وتكرر مع كتاب المعرض "برنامج الفعاليات" نفسه.

فى تواصلنا مع أحد مسؤولى معرض الكتاب والقائمين على تنظيمه، لم ينف ما نشرناه من قبل عن طباعة برنامج المعرض بشكل خاطئ، والاضطرار لسحب مئات النسخ منه بعد ساعات من انطلاق المعرض، ولكنه برر الأمر باعتذار بعض الضيوف، ما اضطرهم لسحبه وإعادة طباعة 11 صفحة منه، تضمنت الندوات التى اعتذر ضيوفها، على حد قوله، وبعيدًا عن حقيقة أن البرنامج بكامله تم سحبه ولم يعُد للمعرض ثانية، إلا أن الرواية الرسمية نفسها تحمل داخلها شبهة التدليس والتلاعب، إذ طالما شهد المعرض اعتذارات وغيابات فى دوراته السابقة، ومنها دورة 2016 التى تولتها المجموعة نفسها، ولم تُطبع البرامج مرة أخرى أو يُعَد تعديلها، كما أن إعادة طباعة 11 صفحة موزعة على كامل مساحة الكتاب، وليست ضمن "ملزمة" واحدة، لا يمكن أن تتم بهذه السهولة وبالتكلفة القليلة التى تتحدث عنها إدارة المعرض، ناهيك عن إفساد عملية فك الكتاب و"تسييل الغراء" للغلاف، ما يجبر على طباعته مرة أخرى، والمحصلة الأخيرة أننا أمام خطأ كبير وشبهة ضخمة لإهدار المال العام.

الأمر نفسه تكرر مع كتاب "الثابت والمتحول" لأدونيس، الذى دفعت هيئة قصور الثقافة مبلغا ماليا كبيرا لقاء الحصول على حقوقه، وبناء على الطبعة الجديدة له، وضعت لجنة المعرض لقاء فكريًّا ضمن برنامجها، يستضيف أدونيس للحديث حول الكتاب، ولكن يبدو أن الهيئة اكتشفت بعد طباعة الكتاب أنه يناقش قضايا لا يحتملها الواقع الثقافى المصرى، إذ ينحاز الكتاب، الذى كان فى الأصل رسالة دكتوراة مقدمة لجامعة القديس يوسف فى لبنان، إلى مساءلة المركزيات النصية والسرديات الكبرى فى الثقافة العربية، والوقوف على حدود الثابت والمتحول فى فلسفة النص، وفرز سياقات الإبداع والاتباع فى التعامل مع النصوص ومحمولاتها، وأمام صدمة هيئة قصور الثقافة التى تطبع ما لا تقرأ، أو تطبع دون قراءة، اضطرت لسحب الكتاب بعد توفره فى جناح العرض، وعليه اضطرت هيئة الكتاب لإلغاء لقاء أدونيس، بينما سوّقت الأمر على أنه اعتذار من الشاعر والمثقف السورى الكبير، بسبب حمّى الشائعات والأخبار المتضاربة حول كتابه، والمحصلة واحدة فى الحالين، العشوائية والفوضى يتسيدان، ومعرض الكتاب يأبى أن ينتهى بفعالية كبيرة ومهمة، مخليًا ساحته بشكل كامل للفعاليات الخفيفة، والأهل والأصدقاء، والأخطاء الكارثية التى لا يمكن أن ينتج الهواة غيرها.

 

الأمسيات الرئيسية فى أهم معارض الكتاب العربية.. كتاب القصة فى المقدمة

اعتذار أدونيس، أو تغييبه المقصود، ليس الوحيد ضمن قائمة الاعتذارات والغيابات الكبرى، شهدت الأمسية الأولى اعتذار أحمد عبد المعطى حجازى، أحد أبرز أسماء جيل الستينيات إلى جوار صلاح عبد الصبور "شخصية المعرض"، لأن اسمه وُضع بطريقة لا تحمل تقديرا لمنجزه، على حدّ قوله، ولأن المعرض لم ينظم له لقاء فكريًّا يرى أنه يستحقه، بينما نظم لقاء لأدونيس فى 2015، وكان يُعدّ لاستقباله فى لقاء كبير هذا العام.

الشاعر صلاح عبد الصبور
الشاعر صلاح عبد الصبور

 

ضمن قائمة الاعتذارات، غاب الشاعر الإماراتى حبيب الصائغ، رئيس اتحاد الكتاب العرب، عن ندوته ضمن محور شخصية المعرض "الشاعر صلاح عبد الصبور"، وبعد اتصالات من مسؤولى المعرض وهيئة الكتاب، أصدر الرجل بيانا قال فيه إن اعتذاره يعود لأسباب صحية، وإنه سيحرص على التواجد فى ختام المعرض، الجمعة المقبلة، كما اعتذر مستشار شيخ الأزهر، وقائمة واسعة وممتدة من الأسماء، مفكرين وشعراء وسياسيين، ولكن لا يهم، فقد حضر الأصدقاء والعائلة والشلة وأبناء الزمالة الجامعية والمواطنة الإقليمية.

أحمد عبد المعطى حجازى
أحمد عبد المعطى حجازى

 

أمر اعتذار أحمد عبد المعطى حجازى، لوضع اسمه ضمن زحام من الأسماء، ورؤيته أن طريقة دعوته لا تحمل تقديرًا يراه مستحقا، تفتح بابا آخر، وهو باب الأمسيات الشعرية الرئيسية، فى معرض الكتاب الأول والأهم بالشرق الأوسط، والثانى عالميًّا بعد معرض فرانكفورت الألمانى، والمأساة الحقيقة أن ضمن من وضعوا برنامج الأمسيات واختاروا المشاركين فيها، كتاب قصة شبابا، بعضهم لم يصدر إلا عملا واحدا، ولا تزيد معرفتهم بالشعر على معرفة القارئ العادى، وهو الأمر الذى يصلح فى فعاليات صغيرة، لا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، ولكن يبدو أن للهيئة ولجنة المعرض تصوّرًا خاصًّا، وأنهم أرادوها فعالية صغيرة فعلا.

 

ملاحظات عربية واسعة.. وإهانة الثقافة المصرية على مسمع إدارة المعرض

فى استطلاع موسع لآراء عدد من المثقفين والكتاب العرب، المشاركين ضمن برنامج المعرض هذا العام، أو الحاضرين خارج المشاركة الرسمية، سجل الجميع تقريبًا ملاحظات ومؤاخذات على المعرض وإدارته وتنظيمه وفعالياته، ولكنهم رفضوا الكشف عن هوياتهم أو تسجيل تصريحاتهم منسوبة لهم مباشرة، تقديرًا لمصر، وخشية الحرج أمام أصدقائهم من القائمين على إدارة المعرض، ومع المؤسسة الثقافية القيّمة عليه.

الموقف السابق لقطاع واسع من المثقفين العرب المنتقدين للمعرض والقائمين عليه، حمل كثيرًا من الاحترام والتقدير، ورغم أنه يصادر على وصول معلومة كاملة وملاحظات تفصيلية تهم الشارع الثقافى والعام، إلا أن ما بها من تقدير واحترام للثقافة المصرية كان كفيلاً بالتغاضى عن الفضول الصحفى بشأنها، ولكن ما حدث فى قاعة ضيف الشرف، وعلى مرأى ومسمع من قيادات الهيئة والقائمين على إدارة المعرض، كان مختلفًا وغريبًا وصادمًا ومثيرًا للاشمئزاز فى آن.

الناقد المغربى محمد مشبال، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة عبد المالك السعدى فى "تطوان"، وهو ناقد متوسط القيمة ولم يحقق حضورًا ملفتًا فى راهن الثقافة العربية، ولا يُعدّ ضمن الكتيبة الأولى فى الساحة المغربية، وحاصل على الماجستير من كلية الآداب جامعة القاهرة، هاجم الثقافة المصرية فى ندوة ضمن أنشطة ضيف الشرف، مساء الاثنين، قائلاً بصوت جهورى وبلغة واضحة ومكشوفة، إن الدور المركزى للثقافة المصرية قد تراجع وانحسر، وليس فى مصر نقاد الآن، وإنه لا يقرأ لأى كاتب مصرى لأن مصر لا تطبع كتبًا مهمة حاليًا، وهو ما مر مرور الكرام، ولم يقف عليه أحد من القائمين على المعرض، أو لجنته ومشرفيه، وهم "أكثر من الهمّ على القلب"، لتكون إهانة الثقافة المصرية فى قلب معرض القاهرة الدولى للكتاب، الدليل القاطع على أن المعرض بتركيبته الحالية وبالقائمين عليه من الهواة والأصدقاء والمحاسيب، هو نفسه أكبر إهانة للثقافة المصرية، والنكتة المثيرة للسخرية والأسى فى آن واحدة، أن رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب ورئيس اللجنة العليا للمعرض، الدكتور هيثم الحاج على، ناقد أكاديمى متخصص ومحسوب على قبيلة النقاد، الذين يرى "مشبال" أن مصر عدمتهم، وإن كان من حقيقة فى هذا المضمار، وبعيدًا عن أن آخر ناقد عربى هو عبد القاهر الجرجانى، المتوفّى قبل عشرة قرون تقريبًا، وأن الثقافة العربية تحفل بعشرات التطبيقيين ومحترفى إعادة الإنتاج والتعليب، لا بالنقاد الحقيقيين، بوصف النقد فعل تأسيس وتنظير وقراءة خاصة، لا فعل استعارة وتكييف كما يحدث الآن على امتداد الخارطة العربية، الحقيقة هنا أننا بالفعل عدمنا، ولكن لم نعدم النقاد، عدمنا العقول التى يمكن أن تدير وتخطط وتصنع فعالية مهمة، بل حتى لا تستطيع تسيير دولاب العمل بشكل اعتيادى، لا يضيف ولا يخصم، وإنما لا يتأتى لهم فى كل خطة وفكرة وحركة، ولا يصيبون، إلا مزيدًا من التراجع بالثقافة المصرية، والإجهاز على وجهها الناصع المضىء، أو الذى كان مضيئا وناصعًا قبل أن يُعملوا فيه معاولهم.

 

هيثم الحاج على وأصدقاؤه.. من المسؤول عن كوارث معرض الكتاب؟

قائمة الملاحظات والسلبيات والعوار لا يمكن إحصاؤها، واليوم، ونحن نستقبل ختام المعرض، ويتبقى لنا يومان أو أكثر قليلاً على إسدال ستاره، لا يمكن أن يكون صراخنا بغرض إصلاح ما فات، صرخنا فى الدورة الماضية استهدافا للدورة الحالية، ولم يتحرك أحد، فكانت 2017 أسوأ من 2016، تحت رعاية الإدارة نفسها والمسؤولين أنفسهم.

معرض القاهرة الدولى للكتاب يواجه محنة كبيرة، فى الإطار العام وما يخص ماكينته فى جوهرها، وفى الإطار الخاص المتصل بالدورة الحالية، يبدو أن هناك فقرًا فى الخيال والأفكار، ومحدودية فى الكفاءات والقدرات، وإخلاصًا لمنطق الصداقة والشلة أكثر من الإخلاص للثقافة المصرية وصالح فعالياتها وأحداثها الكبرى، والمحصلة أن المعرض يسير من سيئ إلى أسوأ، من ناصر الأنصارى لأحمد مجاهد لهيثم الحاج على، التراجع مسلسل متواصل وعرض مستمر، والدورة الأخيرة كشفت عن الأزمة فى وجهها الفادح، تراجع عدد دور النشر، زادت الفعاليات وزادت معها السطحية والعجلة والرداءة، التنظيم سيئ والتخطيط شبه غائب، الاعتذارات كثيرة ومتنوعة الأسباب، الكُتب تُطبع وتُسحب ولا حساب للمال العام وحق المتلقين، المباهاة تتصاعد بأعداد الزوار وكم الفعاليات ولا حديث عن الأثر، عن دور المعرض المباشر كسوق للكتاب، عن حجم المبيعات ونسبتها إلى عدد الزوار، عن توقيع عقود نشر وترجمة واتفاقات بين الكتاب والوكلاء الأدبيين ودور النشر المحلية والعربية والأجنبية، عن استغلال مطابع الهيئة فى اقتطاع حصة من كعكة النشر الضخمة بدلاً عن تحول البنية الأساسية الأخطبوطية للهيئة لعبء على موازنتها وحركتها، عن القضاء على مجاملات النشر وأخطائه، وعلى كوارث التسعير والتوزيع، وعلى مراكز القوة المتضخمة والمتوسعة داخل هيئة الكتاب، ملاحظات الضيوف والأشقاء العرب تتزايد، انتقاد الثقافة المصرية والخصم منها يتم داخل قاعات الندوات وعلى منصاتها، صلاح عبد الصبور يحضر ضيف شرف وتغيب تجربته فى جوهرها، فى حضورها الحقيقى والملموس بين أحفاده ومريديه، ويغيب أصدقاؤه وأبناؤه الحقيقيون، وتغيب بنتاه عن المعرض، الآلاف تُنفق على مطبوعات تتصدرها عبارة "الشباب وثقافة المستقبل"، بينما يغيب الشباب بشكل فعلى، بعيدًا عن محاولات التجميل الساذجة، وتغيب ثقافة المستقبل أصلاً، ويُعاد إنتاج الماضى بكامله، سواء عبر الأسماء المهيمنة على المعرض وأنشطته خلال العقود الماضية والآن، أو عبر إنتاج قيم وعناوين ومحاور تنتمى لثقافة الماضى أكثر من انتمائها للحاضر، ناهيك عن ثقافة المستقبل، التى لم تقترب منها إدارة الهيئة والمعرض، والحمد لله أنهم لم يفعلوا، فقد أفسدوا علينا حاضر الثقافة وحاضر معرض القاهرة الدولى للكتاب، الذى كان مهمًّا وحاضرًا ومؤثرًا وقبلة للعرب جميعًا، بينما كانوا يسعون للحصول على ندوة أو لقاء واحد ضمن فعاليته فيما مضى، لا السيطرة عليها وإقطاعها أصدقاءهم وتابعيهم، وبقدر ما نسأل عن المسؤولين عن هذا التردى، وعن آلية الحساب، وعن حجم الحياء وشجاعة الاعتراف بالفشل وتحمل مسؤوليته، نتمنى وندعو الله ألا يستمر هذا العقم طويلا، كى لا يُفسد علينا ثقافة المستقبل، التى استحضرها المعرضيون عنوانا اليوم، ويستعدون لانتهاكها متنًا وممارسة غدًا، إلا أن يتغمّد الله الثقافة المصرية ومؤسساتها برحمته، ونتخلص من الهواة وأباطرة الشللية والفشل.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة