لم يكن يدور بخلد أى تونسى منذ ست سنوات حيث دوت الصرخة الأولى "بن على هرب" أنه سيأتى اليوم الذى سيتعاطف فيه الشعب مع الطاغية الذى خرجوا ضده، فاليوم وبعد أن أصدر القضاء التونسى أحكاما بالإدانة والسجن المشدد فى عدد من قضايا الفساد - كان أبطالها الرئيس التونسى الأسبق زين العابدين بن على ورموز حكمه - أعربت غالبية الأوساط التونسية عن صدمتها بتلك الأحكام وتعالت الأصوات بإجراء مصالحة وطنية ينتج عنها الصفح عن مذنبى الأمس.
فعلى مدار الأسبوع الماضى وبلد ثورة الياسمين تعيش على وقع جدل داخلى بسبب إحياء مشروع المصالحة الوطنية، بعد أن شهدت الفترة الأخيرة صدور أحكام فى عدد من قضايا الفساد التى ظلت فى أروقة القضاء التونسى على مدار الست سنوات الماضية، تم على إثرها إدانة الرئيس الأسبق وعدد من وزرائه ظنا بأن ذلك سيتماشى مع هوى الشعب التونسى الذى طالب بالقصاص فى مهد الثورة.
إلا أن صدور الأحكام كشف تحول فى هوى التونسيين من القصاص الى المطالبة بمصالحة وطنية لوطن يسع جميع الأطياف، ولهذا أسباب عديدة منها أن تونس تمر بأزمات متتالية منذ سقوط نظام بن على مما ولد حالة من الحنين الى العهد البائد بكل مساؤه، ومن الأسباب أيضا مناداة بعض الأصوات فى تونس بالاستفادة من تجارب الدول السابقة التى شهدت مصالحات مع الماضى مثلما حدث فى جنوب أفريقيا كمثالا، وطيفا آخر يخشى أن يتم استغلال القضاء كأداة لتصفية الحسابات السياسية.
وتماشيا مع التغير فى المزاج العام خرج عدد من الأحزاب السياسية عن صمتهم ونددوا بتلك الأحكام داعين الى سرعة تحقيق المصالحة الوطنية، وأعتبر حزب نداء تونس – حزب الرئيس التونسى – أن تلك الأحكام معرقلة لمسار المصالحة الوطنية، حيث أكد القيادى بالحزب يوسف الجوينى أن قيادات الحركة يشعرون بالاستياء من مثل هذه الأحكام القضائية ضد بن على ووزراء، لافتا الى أنها تقف حجر عثرة أمام المصالحة الشاملة بل هى جاءت لتكرس سياسة التشفى والحقد فى حين أن الشعب التونسى معروف بالتسامح.
أما حركة النهضة الإسلامية الشريك فى الحكم بتونس، والتى وفقا لتصريحات قياداتها أكثر من تعرضوا للاعتقال والمطارادات الأمنية فى العهد البائد، فتنادى أيضا بالعفو عما سلف، وإلى جانب الحزبين الحاكمين تأتى حركة مشروع تونس التى عبرت عن خشيتها مما أسمته استعمال القضاء، كأداة لتصفية حسابات سياسية وضرب مساعى المصالحة.
واستكمالا لتلك المواقف السياسية المؤيدة للموقف ذاته عبر الحزب الدستورى الحر، بدوره عن تعاطفه مع المحكوم عليهم واصفا الحكم بالقاسى مؤكدا استعداد لجنته القانونية للانضمام إلى فريق الدفاع عنهم فى بقية مراحل التقاضي، وضم حزب المبادرة الوطنية الدستورية صوته إلى البقية واعتبر أن هذه المحاكمات، قد تتسبب فى توتر الأجواء وانتشار الحقد والضغينة، فى وقت تحتاج فيه البلاد إلى مزيد من الوحدة الوطنية.
وفى تلك الأثناء عاد الحديث مجددا على مشروع قانون المصالحة الوطنية، والذى قدمته مؤسسة الرئاسة التونسية فى يوليو 2015، رغبة فى تحريك عجلة الاقتصاد، خاصة وأن ملفات الفساد لم يتم الفصل فيها قضائيا ولا بد من آلية مصالحة مع رجال الأعمال لضخّ أموال فى خزينة الدولة، إلا أن ظهوره فى ذلك الوقت - حيث أن الرأى العام كان مازال مشبعا بشعارات الثورة – جوبه بالرفض من قبل عدد من الأطراف الحقوقية منها والسياسية واعتبروه تبييضا للفساد وتكريس سياسة الإفلات من العقاب.
وشهد الوسط التونسى عدد من التحركات ضد مبادرة قصر قرطاج، فى مقدمتها عودة الاحتجاجات للشارع ضد القانون، بالإضافة إلى تنظيم مبادرة تحت عنوان "مانيش مسامح" شارك فيها أطراف عديدة فى مقدمتها عائلات شهداء الثورة وجرحاها مطالبين بالحقيقة محاسبة المسئولين، وأمام هذه الموجه العالية من المعارضة تم وضعه فى أدراج البرلمان لحينه.
وعاد طرح النقاش حولة فى يوليو 2016 ولكن لم تستكمل فيه المناقشات، بعد تجدد الاحتجاجات التى طالبت اللجنة التشريعية بالامتناع عن مناقشته، وقال البعض أن توقيت طرحه من جديد يعتبر مكافأة لرجال الأعمال الفاسدين الذين مولوا الحملات الانتخابية الرئاسية للائتلاف الحاكم، ليختفى مجددا ويعود اليوم لأروقة البرلمان التونسى وخلفة حشد سياسى وشعبى مؤيد.
وأعلنت رئاسة الجمهورية التونسية أنها تدرس سحب مشروعها للمصالحة القديم لإجراء تعديلات عليه، قبل إعادة عرضه على البرلمان، مؤكده على إيمانها بضرورة دعم مشروع قانون المصالحة الوطنيّة وحاجة البلاد العاجلة لتكاتف جهود كل القوى الوطنيّة، لتجاوز رواسب الماضى والمضى قدما فى بناء مستقبل مشرق لكل التونسيين والتونسيات، وبالتوازى مع ذلك قدم عدد من النواب مبادرة جديدة منذ أيام فى السياق ذاته.
والظاهر أن الرفض داخل البرلمان تجاه المصالحة قد قل عن السنوات السابقة، حيث رفض قله من نواب المعارضة هذه المشاريع وقال أمين عام التيار الديمقراطى غازى الشواشى "سنعمل على التصدى لأى مبادرة تتعلق بالمصالحة، لافتا الى إن نواب المعارضة التونسية سيتصدون لأى مبادرة تتعلق بالمصالحة الاقتصادية والمالية خارج إطار منظومة العدالة الانتقالية المنصوص عليها فى الدستور، وأنه لا سبيل لتمرير أى قانون فى عنوانه مصالحة وفى باطنه تكريس للإفلات من العقاب وطمس للحقيقة.
ووسط طوفان التأييد والمعارضة على استحياء من البعض قالت صحيفة الشروق التونسية أن حرب برلمانية تلوح فى الأفق بين أصحاب المبادرة التشريعية حول المصالحة وبين معارضيها، والسبب لا يتعلق بالمصالحة فالجميع مقتنعون بضرورتها بل يرتبط بشكلها، لافته الى أن الكثير من المتحمسين للمصالحة التشريعية يرون أن العدالة الانتقالية لم تحقق أهدافها حتى الآن، والأزمة تكمن فى تمسك كل طرف بالشكل الذى يخدم مصالحه الضيقة.
وأيام قليلة وسيتم طرح القانون للنقاش وكل يدلوا بدلوه فى الرفض أو القبول، إلا أن المزاج العام فى تونس بعد مرور أكثر من ست سنوات على سقوط نظام بن على يتجه نحو رغبه فى طى صفحة الماضى لضمان الاستقرار الإجتماعى والاقتصادى للبلاد بدلا من حالة التجاذبات التى لم تؤدى الى تطور، إلا أن اختلاف الرؤى حول كيفية إجراء المصالحة كلُ وفقا لمصالحة الحزبية قد يعرقل الأمر لبعض الوقت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة