ربما لم يكن خافياً على أحد، أن مصر الدولة الوحيدة فى العالم التى كانت متأكدة من فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة على حساب المخضرمة سياسياً ودبلوماسياً هيلارى كلينتون، وهذا التأكد لم يكن منبعه رغبة مصرية فى ألا تصل هيلارى للبيت الأبيض لما تملكه من تاريخ ملئ بالصفقات القذرة سواء بدعم جماعة الإخوان الإرهابية أو إحداث تحولات دراماتيكية صعبة فى المنطقة، لكن لأن مصر أحسنت تقييم الموقف الداخلى فى الولايات المتحدة، وتوصلت لقناعة بأن الأمريكيين ملوا من سياسات الديمقراطيين الداعمة للجماعات الإرهابية فى الشرق الأوسط، وكذلك سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية التى تسببت فى مشاكل لا حصر لها، وعلى رأسها تزايد معدل البطالة لدى الأمريكيين وارتفاع معدل الجريمة وخاصة ضد السود، فى وقت كان يتولى الرئاسة الأمريكية رئيس أسود.
وكانت الدولة المصرية شبه متأكدة من فوز ترامب، لكنها تعاملت خلال الحملة الانتخابية مع المرشحين، ترامب وهيلارى، بقدر من التساوى، منتظرة الإعلان النهائى عن نتيجة الانتخابات التى لم تخرج عما توقعته مصر وكانت مستعدة لهذه النتيجة، لذلك صدر أول بيان من القاهرة مرحباً بفوز ترامب، وكان الرئيس عبد الفتاح السيسى أول من هنأ ترامب هاتفياً، فى إشارة ذات دلالة لمن يهمه الأمر.
والحديث عن السيسى وترامب، يستدعى العودة إلى اللقاء الوحيد الذى جمع بينهما، ففى خضم الحملة الانتخابية للمرشحين هيلارى كلينتون ودونالد ترامب، طلب المرشحان أن يلتقيا بالرئيس السيسى خلال وجوده بمدينة نيويورك للمشاركة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالفعل جرى اللقاءين فى يوم واحد مساء 20 سبتمبر الماضى، وفى مقر إقامة الرئيس فى نيويورك "فندق نيويورك بالاس"، بدأ الرئيس بلقاء هيلارى التى كان يعرفها جيداً، حيث التقيا قبل ذلك أكثر من مرة حينما تولت هيلارى الخارجية الأمريكية.
وبعد هيلارى جاء اللقاء المنتظر، دونالد ترامب، وهو اللقاء الذى يمكن اعتباره استكشافيا للطرفين، فمصر كانت شبه متأكدة من فوز ترامب، وكان يهمها أن تتعرف على الرئيس الجديد بشكل مباشر، وبالفعل استمر اللقاء قرابة الساعة، واستطاعت الكاميرات أن تلتقط فى ثوانى صوراً ذات دلالة، حينما أظهرت المرشح الجمهوري يهز رأسه وهو يصغي إلى الرئيس السيسى فى أحاديثه، بما يعنى أن ترامب كان مهتما بما يسمع وأنه جاء إلى السيسى ليسمع منه أموراً كانت غائبة عنه، فقبل اللقاء كان ترامب يقود هجمة شرسة على الإسلام المتشدد، وتم تصويرها فى الإعلام الأمريكى أنها موجهة إلى عموم المسلمين، ويبدو أن ترامب سمع من الرئيس السيسى خلال اللقاء الفارق الجوهرى بين الإسلام المعتدل والأخر المتشدد المرفوض من عموم المسلمين، وأنه أقتنع بما سمع، وخاصة حينما خرج أعضاء حملته ليعلنوا أن ترامب أبدى إحترامه لعموم المسلمين، وأنه كان يقصد فقط التشدد والتطرف.
وبجانب التشدد والإرهاب والإسلام المعتدل كانت هناك أحاديث حول قضايا كثيرة من بينها الوضع فى المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية وما يحدث فى سوريا وليبيا.. ولم تكن الكاميرات فقط هى التى كشفت عن أعجاب ترامب برئيس مصر، فبعد اللقاء خرج ترامب مادحاً فى السيسى ومصر، حينما أشاد به مؤكدًا أنه يسيطر على أوضاع البلاد ويدفع بالحياة السياسية إلى الأمام، كما وصفه بأنه "رجل رائع تعلم منه وبينهما انسجام"، وأكد ترامب، خلال مداخلة هاتفية مع برنامج "لو دوبس" على شبكة فوكس بيزنس نيوز، أن الرئيس السيسى لديه حلولا جذرية تقضى على الإرهاب، معربا عن ثقته التامة فى قدرة الرئيس المصري على استعادة مكانة مصر دوليا.
ولم يكتفى ترامب بهذه الكلمات التى يبدو أنها صدمت الكثيرين فى داخل الولايات المتحدة وخارجها، فقد أكد بصورة جازمة إنه فى حال انتخابه رئيسا فستكون الولايات المتحدة دولة "وفية" لمصر وليست فقط حليفة"
من هذا اللقاء وما تلاه من رسائل متبادلة واتصالات هاتفية وزيارات متكررة لوفود أمريكية إلى القاهرة، ومصرية إلى واشنطن ظهرت نقاط التلاقى بين السيسى وترامب، وهى محددة بقضايا رئيسية، أهمها بطبيعة الحال العلاقات الثنائية، والتى أكد ترامب أنها محورية وقوية وتتسم بطابع استراتيجى، مؤكداً أيضاً فى أكثر من مناسبة حرصه على الدفع قدماً بالتعاون الثنائى بين الولايات المتحدة ومصر في مختلف المجالات خلال المرحلة المقبلة والارتقاء به إلى آفاق أرحب.
أما من الجانب المصرى، فظهر التأكيد على أن الفترة المقبلة ستشهد تغيرا فى العلاقات إلى الافضل، وهنا تجدر بنا الإشارة إلى البيان الرئاسى الذى أصدرته مؤسسة الرئاسة فور إتمام مراسم تنصيب ترامب فى 20 يناير الماضى، الذى أعربت فيه عن تطلعه لأن تشهد فترة رئاسة "ترامب" إنطلاقة جديدة لمسار العلاقات المصرية الأمريكية، تعود على الشعبين المصرى والأمريكى بالمصلحة والمنفعة المشتركة، ويسودها التعاون والتشاور المثمر حول مختلف القضايا الإقليمية، لتحقيق الاستقرار والسلام والتنمية بمنطقة الشرق الأوسط المتخمة بالتحديات.
مسار جديد للعلاقات يختلف عن السائد خلال فترة أوباما، والتى شهدت توتراً ملحوظاً بسبب الدعم الأمريكى لجماعة الإخوان، وتردده منذ البداية فى الإعتراف بثورة 30 يونيو، والتى جاءت على عكس هوى الإدارة الأمريكية التى عولت كثيراً على حكم الإخوان لتنفيذ ما يريدونه ويخططون له فى المنطقة.
القضية الأخرى المهمة فى التلاقى بين السيسى وترامب، تتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف، فخلال حملته الإنتخابية، وبعد فوزه دأب ترامب على الإشادة بالجهود المُقدّرة التي تبذلها مصر فى موضوع مكافحة الإرهاب، وتقديره لما تحملته مصر من صعاب خلال حربها ضد الإرهاب، وتأكيد حرص الإدارة الأمريكية الجديدة على تقديم الدعم والمساندة اللازمة لمصر فى جميع المجالات، وتلاقى ذلك أيضاً مع تأكيدات الرئيس السيسى أن مصر عازمة على مواصلة جهودها لمكافحة الإرهاب والتطرف واجتثاثه من جذوره والقضاء عليه، رغم الأعباء التى تكبدها الاقتصاد المصرى على مدار الثلاث سنوات الماضية، وما قدمه الشعب المصرى من تضحيات غالية.
وهنا يجب الإشارة إلى موضوع أخر مهم فى العلاقات المصرية الأمريكية، فترامب وفريقه يؤمنون بأن جماعة الإخوان هى المنبع الذى تستقى منه الجماعات الإرهابية أفكارها، كما أن قياداتها وعناصرها فى الولايات المتحدة يمثلون خطراً ليس فقط على الولايات المتحدة وإنما على السلام العالمى بأكمله، خاصة أنهم يتولون تمويل الجماعات الإرهابية والمتطرفة فى أكثر من بلد عربى، وساعدهم فى ذلك أن إدارة باراك أوباما كانت تمثل الحاضنة بالنسبة لهم، فكان الإخوان ضيوفاً دائمين على الخارجية الأمريكية والمراكز البحثية ذات الصلة والتأثير أيضاً على القرار الأمريكى، وهو ما أنتبه له ترامب جيداً، ونراه قد ركز على هذه الجزئية خلال حملته الإنتخابية وفى مناظراته مع منافسته هيلارى كلينتون التى أتهمها صراحة بدعم الإرهاب فى العالم عبر دعمها للإخوان.
ترامب وصل الأن إلى هذه القناعة بأن القضاء على الإرهاب يجب أن يبدأ باستئصال الجذور، والمقصود هنا هى جماعة الإخوان، لذلك فإن العمل يجرى حالياً على إقرار مشروع قانون فى الكونجرس يعتبر الإخوان جماعة إرهابية محظورة، وهو القانون الذى سبق أن تقدم به نواب جمهوريين خلال ولاية أوباما، لكن الإدارة الديمقراطية استخدمت كل وسائلها لعرقلته، لكن الواقع الأن تغير، فالجمهوريين يسيطرون على البيت الأبيض والكونجرس أيضاً، لذلك فالطريق أصبح مفتوحاً أمام تعهد ترامب باعتبار "الإخوان" جماعة إرهابية محظورة.
وهناك أيضاً اهتمام مشترك من الرئيسين، لطرح حلول عملية للأزمات التى تعانى منها المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التى تستحوذ على الأهتمام المصرى، ولا ننسى أن الرئيس السيسى طرح منذ عدة أشهر مبادرة لتحريك المياه الراكدة فى المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وقامت بجهود لاتزال متواصلة، وقد أبدت إدارة ترامب تقديرها لهذه الجهود ودعمها لها، وهناك أيضاً الوضع فى ليبيا وسوريا، فهناك شبه اتفاق بين القاهرة وواشنطن على ضرورة وضع الحلول السياسية على الطاولة، والبعد عن أى أفكار عسكرية، لأنها ستعقد الأمور أكثر مما هى عليه الأن.
المحصلة النهائية التى يمكن أن نصل إليها الأن، أننا أمام رئيسان يفهمان بعضهما البعض، يقدر كل منهما أهمية الأخر، وأن التعاون بينهما يجب أن يكون هو السائد لوضع الحلول لكل القضايا العالقة سواء على المستوى الثنائى أو المتعلق بالقضايا الإقليمية.