احتشد الآلاف فى مطار ألماظة بالقاهرة لحظة هبوط المنطاد، وتدافع الناس بشكل هيستيرى جهته لرؤيته واستقباله، مما اضطر رجال الأمن إلى دفعهم بعيدًا، إلى أن تمت السيطرة على الحاضرين لرؤية المنطاد العملاق، وبالفعل هبط فى سلام بعد أن قام الجنود بالإمساك بحباله وتثبيتها، حسبما تؤكد صحيفة «الأهرام- القاهرة» فى عددها الصادر يوم 12 إبريل 1931.
كانت الساعة السادسة صباحا يوم السبت 11 إبريل «مثل هذا اليوم» عام 1931، حين احتشد الناس يتقدمهم رجال الدولة المصرية لمشاهدة هبوط المنطاد، وحسب سوزان عابد فى مجلة «ذاكرة مصر»، «العدد 16، يناير 2014»، طاف العالم شرقا وغربا، وتجول فوق عواصم المدن الكبرى من لندن إلى باريس إلى روما ونيويورك، واستقبله المصريون بحفاوة بالغة، وأحاط به أزمة سياسية أثارها عام 1929، وتذكر «سوزان» أن «المنطاد» هو عبارة عن سفينة هوائية ضخمة تطير فى الجو، وظهرت نتيجة الحاجة الملحة لوسيلة نقل عملاقة تنقل وزنا ثقيلا من مكان إلى آخر، وفكرة عمل المنطاد لا تختلف عن فكرة البالون، إلا أنه يتميز بضخامته وصلابته واستخدام المحركات فى توجيهه، ويرجع الفضل فيه إلى المهندس الفرنسى «هنرى جيفارا» الذى تمكن من تطيير أول سفينة هوائية من باريس إلى فرساى عام 1852، وحدث تطوير لها وزيادة سرعتها وحمولتها، وتسابقت إنجلترا وألمانيا فى هذا، ولعبت دورا كبيرا فى أحداث الحرب العالمية الأولى «1914-1918» لاستخدامها فى نقل القنابل والأسلحة الثقيلة لمسافات طويلة.
كان المنطاد الذى نزل فى القاهرة من نوع مناطيد معروفة باسم «جراف زبلين»، وكما تذكر سوزان عابد: «تحمل اسم صاحبها الكونت الألمانى فرديناند فون زبلين، وتعد أشهر مناطيد طافت العالم، ونقلت آلاف المسافرين وملايين الخطابات والكروت البريدية، وأخذت تطوف العالم وتنقل المسافرين»، وفى مارس عام 1929 كان من المقرر أن يقوم برحلة إلى سوريا وفلسطين وتركيا ومصر، لكن سلطات الاحتلال البريطانى لمصر رفضت نزوله فى مصر أو تحليقه فوق قناة السويس، واعتبرت القضية قضية أمن قومى خاص بإنجلترا لا بمصر، وتذكر «عابد» أن السياسيين المصريين انقسموا بين مؤيد لقرار السلطات البريطانية، وأخرى عارضت رافضة التدخل البريطانى فى شؤون مصر، وتؤكد أن مصر لم تحرم من هذه الرحلة بشكل كلى، حيث طار المنطاد فوق مصر دون النزول على أرضها، ووجدت صحيفة الأهرام فى هذه الرحلة حيث أوفدت مندوبها الخاص محمود أبوالفتح، ليكون ممثلا لمصر فى الرحلة وينقل تفاصيلها يوميا إلى القراء ويرفع علم مصر فوق المنطاد.
بعد عامين، حصل المنطاد على تصريح بالموافقة على الطيران فوق مصر والنزول فيها، فأرسلت «الأهرام» مندوبها محمود أبوالفتح إلى ألمانيا ليصاحب الرحلة إلى مصر، وتزايد الإقبال عليها لكثرة الأعداد المقبلة على زيارة مصر، وخاصة من السويسريين، وتذكر «سوزان عابد» أنه فى تمام الساعة السادسة صباح يوم 9 إبريل غادر المنطاد مقره بألمانيا وكان فى وداعه لفيف من الألمان، وحال سوء الأحوال الجوية دون سير الرحلة والمرور فوق مدينتى ليون ومرسيليا بفرنسا وروما فى إيطاليا كما هو مقرر، مما أثار استياء بعض الركاب، وقرر قائده الدكتور إكنر أن يتخذ الطريق الأكثر أمنا فاختار الشاطئ الغربى لجزيرة صقلية، ثم الاتجاه إلى الجنوب الغربى جهة مالطة ثم بنغازى فالسلوم، ومنها إلى الإسكندرية ودلتا مصر والقاهرة.
تجمع فى مطار ألماظة أكثر من 350 ضابطا بريطانيا تابعين لسلاح الطيران البريطانى، تلقوا محاضرة فى كيفية إنزال المنطاد والإمساك بحباله جيدا، حتى يهبط دون أى كوارث، وباعت السلطات المصرية تذاكر لأصحاب السيارات الراغبين فى مشاهدة المنطاد وقت نزوله، ووصل إلى الحدود المصرية قبل موعده بأكثر من 18 ساعة، وحلق فوق مدن وقرى مصر طبقا لنصيحة «أبوالفتح» كى يتاح لأكبر عدد من المصريين مشاهدته، وفور وصوله إلى الأجواء المصرية أرسل تلغرافا إلى الملك فؤاد برفع عواطف الإجلال والاحترام إليه.
وفى كل مدينة وصلها خرج الناس مجتمعين لتحيته والتصفيق له، وكان رجاله يسلطون الأضواء الكاشفة على جسمه ليتمكن الناس من رؤيته ليلا، وظل يحلق فى سماء مصر طيلة الليل، ونزل فى المطار صباح يوم «11 إبريل».