تخيل أن التيار الكهربى فجأة انقطع، تحاول النظر حولك ولا ترى سوى الظلام، لا تستطيع أن تتحرك خطوة دون أن تمد يديك لتتحسس طريقك، فى الحقيقة هى لحظات صعبة لكنها تبقى مؤقتة، تخيل أن الكفيف يعيش حتى الموت فى هذا الظلام!! وهنا السؤال كيف يعيش ويتواصل الكفيف مع التكنولوجيا والعالم المتطور فى كل لحظة؟! كيف يحب الكفيف بلا نظرة ولو أولى؟ ما هى المواقف الصعبة والطريفة التى يصادفها كل يوم؟ هنا من خلال السطور نغوص فى أعماق الظلام القهرى، لتتعرف على تفاصيل حياة بلا نور.
مجتمع خاص بالمكفوفين
هل تعلم أن المكفوفين قد بدأوا الآن فى تكوين مجتمع خاص بهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعى، مثل الفيس بوك والواتس آب باستخدام البرنامج الناطق الذى سهل التواصل فيما بينهم فى أنحاء العالم، وأن الكثير منهم متطور تكنولوجيا إلى حد كبير، ويستطعيون استخدام الموبايل باللمس ليشاركونك البوستات والفيديوهات ولينكات الأندرويد الخاص بالمكفوفين، بالإضافة إلى مواعيد رياضاتهم وأنشطتهم ومبارياتهم مثل كرة الجرس اللعبة الأشهر والأكثر ممارسة فى عالم المكفوفين.
الحب بلا نظرة أولى؟!
كريم الديب، 32 عاما، متابع مركزى لمدارس التربية الخاصة، وُلد كفيفا، يحكى قصة حبه التى بدأت أثناء تحضيره لدبلومة فى الإعاقة البصرية، إذ قابل زوجته المبصرة التى أحبها وأحبته، وقال: (الحب ده عالم كبير وكل إنسان بيحب بالملكات اللى ربنا مديهاله، إذا غاب البصر، فهناك السمع، والعقل، والكفيف بيحب ويحس زى باقى الناس لأنه ببساطة عنده قلب وعقل زيهم، وأنا بدأت أحس بالراحة والرغبة فى الكلام معاها بشكل مستمر وتطور الأمر بالتدريج حتى أصبح حبا، وتزوجنا بالفعل).
أما محمد بديع، 57 عاما، حاصل على بكالوريوس تجارة، فقد تعرض فى عمر 23 عاما لإصابة بالتهاب فى العصب البصرى تحول إلى ضمور، فأصبح كفيفا ويقول عن تجربته: (كان إحساسا مرا للغاية، لم أكن أستطيع أن أمشى خطوة واحدة، كنت أضع يدى على كتف أخى جمال، ومع الوقت تعودت على الوضع واستطعت التكيف مع الظروف القاسية الجديدة).
وبالنسبة لزواجه فقد تزوج من مبصرة، أنجب منها ثلاثة أبناء، ولخص مسألة الحب فى أن إحساس الحب والعاطفة نابع من بصيرة القلب، وغالبا ما يتزوج المكفوف مستعينا بسؤال المقربين منه عن العروس المناسبة، لافتا إلى أن الصوت له دور كبير جدا، فكثيرا ما يحب الكفيف امرأة من صوتها!
تعددت الأسباب.. وكف البصر واحد.. علاج دون تجربة
يقول محمد أبو النور، 36 عاما: (بدأت مشكلتى وعمرى 11 شهرا، أصبت بحمى؛ فتوجهت بى أسرتى إلى طبيب شهير وكتب لى روشتة بدواء غالى الثمن، وخلال أسبوع من تعاطى العلاج بدأ فى تدمير عيناى، لقد وافقت وزارة الصحة عليه دون تجربة؛ فتسبب هذا الدواء اللعين فى إصابة 250 طفلا بأنواع سرطان مختلفة، كلهم ماتوا عداى وطفل آخر يدعى جوزيف، واُستئصلت عينى اليمنى واستأصل هو اليسرى؛ نتيجة إصابتنا بسرطان العيون، وتعاطيت العلاج الكيمياوى لمدة 15 عاما، وبانتهاء الجرعات كان بصرى قد انتهى، وتم تركيب عدسة صناعية مكان العين المستأصلة، وتركت المدرسة مضطرا وأنا فى الصف الثانى الثانوى).
شر البلية ما يضحك
يحكى محمد عبد الخالق، 31 عاما، قائلا: (شر البلية ما يضحك، فيوميا نعايش المواقف الطريفة والمُرة، ومن بين المواقف الطريفة أننى فى إحدى المرات كنت فى المترو برفقة صديقى، وبعد نزولى من المترو أمسكت بيد رجل آخر، وسرت معه دون أن أدرى أنه شخص آخر). ويضيف: (مثلا لما بيكون فى حد من ولادى بيضرب التانى مبتكلمش، ولو اتكلمت بقولهم معلش أنتوا إخوات لأنى ما شوفتش اللى حصل ومش عارف مين غلطان ومين مش غلطان).
ويقول "أبو النور": (كنت ماشى مع زمايلى الأكفاء ومعنا أم زميلنا والمفروض إن هى دليلنا، فجأة وقعت على الأرض، قام صف المكفوفين كله وقع وراها).
لحظات تمنيت فيها أن أكون مبصرا
يتحدث "أبو النور" عن موقف عصيب قائلا: (مرض ابنى يوسف بعد انفصالى عن زوجتى، واضطريت للنزول لوحدى للمستشفى شايل ابنى على إيديا، وأنا أصلا مش شايف أروح فين ولا آجى منين، حتى لما ركبت تاكسى ووصلنى للمستشفى، أنا شايل ابنى وبجرى يمين وشمال، بس مش شايف أتحرك إزاى جوة المستشفى، وفى موقف تانى قبله... يوم ولادة ابنى يوسف.. كان محتاج حضانة، وإسعاف ينقله، وماكنتش عارف اتصرف إزاى.... مواقف قاسية بتعدى بستر ربنا).
ويقول "بديع": (اتمنيت أشوف ولادى، وبحاول أرسم لهم صورة فى خيالى).
ويقول "عبد الخالق": (بحس بالعجز لما بيكون فى حد من أهلى تعبان ونفسى أروح له، بتمنى لو إنى أقدر أروح لوحدى وما استناش حد يودينى).
ويقول "الديب": (لسة ما جاتنيش اللحظة اللى أقول يارتنى كنت شايف، بس لو رحت مكة هتمنى لو كنت مبصر عشان أشوف الكعبة).
"كود" الحقيبة السرية من أجل خصوصية كفيف عبقرى!
ذكر "بديع" أن الكفيف يستطيع الاعتماد على نفسه، والوصول للأشياء وحده طالما أنها فى مكانها، وقال: (لدى حقيبة خاصة بى أغلقها بأرقام سرية وأفتحها بنفسى واحتفظ بأموالى وأوراقى المهمة فيها)!
كيف تقيم شخصا لا تراه؟
يقول "الديب": (نظرتك فى الوجه جزء من تقييم الشخص، لكن لو كان لديه القدرة على التمثيل؛ فسيتمكن من خداعك حتى لو كنت مبصرا، وأنا أقيم الشخص من طريقة الكلام ورعشة صوته).
عارف يعنى إيه ألوان؟!
يقول "عبد الخالق": (فقدت بصرى وأنا طفل فى الخامسة؛ وأذكر الألوان، وأفضل منها الألوان الداكنة، وزوجتى تساعدنى فى تنسيق ملابسى).
ويقول "أبو النور": (أنا ماعرفش الألوان، أنا بلبس اللى بحس إنه يناسبنى، مابأزمهاش مع نفسى - "مبتسما"- حتى لو لبست سلطة، المهم إنى مرتاح).
أما "بديع" فيهتم بتنسيق ألوان ملابسه بسؤال من حوله؛ ليختار ملابسه، خصوصا أنه عاش مبصرا حتى عامه الثالث والعشرين وما يزال يذكر الألوان وطرق تنسيقها.
معاكسة البنات بطريقة "برايل"
يحكى رامى عصام، 27 عاما، محاسب بالمركز النموذجى لرعاية المكفوفين تجربته مع والديه الكفيفين قائلا: (عانى والدى الكفيفين فى بداية زواجهما، وكانت أمى ترعانى، وعندما توفيت والدتى، تزوج والدى بأخرى كفيفة، فأنا محاط بالمكفوفين طوال عمرى، فى بيتى وعملى وحتى أصدقائى معظمهم مكفوفين –مبتسما - وبنعاكس البنات الحلوة سوا).
الحريق.. مس كهربائى.. مخاطر محتملة.. كيف يتعامل معها الكفيف؟!
يقول "الديب": (كل يوم نواجه الصعوبات، وأهمها معاناتنا فى المواصلات؛ لذا فزوجتى تتولى توصيلى لعملى).
وأشار إلى معاناة الأكفاء فى التربية الخاصة بسبب تحويل المدرسين أصحاب المشاكل بالمدارس الحكومية لمدارس المعاقين، بدلا من انتقاء الكفاءات للتعامل مع أصحاب الإعاقات؛ الأمر الذى يسبب المزيد من المشكلات النفسية للطلبة.
ويضيف "بديع": (الكفيف معرض للمخاطر.. فى حال اندلاع حريق.. أو حدوث ماس كهربائى، فكيف يكتشف المشكلة؟ وكيف يتصرف فيها؟؟).
كفيف يحول مقص ورق الطباعة على طريقة برايل!
يعمل "بديع" فى مطبعة برايل بالمركز النموذجى لرعاية المكفوفين على مقص حديث يعمل بـ 198 برنامج كمبيوتر؛ لقص ورق البرايل بأبعاد محددة، بعد أن حوله بنفسه لبرايل، ويحفظ وظيفة ومكان كل زر فيه.
أما "عبد الخالق"، فيقول: (أتفوق فى تسطيب كل أنواع الويندوز للمكفوفين والمبصرين، باستخدام البرامج الناطقة ولوحة المفاتيح العادية لأنى أحفظها جيدا، وأستطيع تركيب الرامات فى الهاردوير).
"ربنا يشفيك".. أنا مش مريض.. أنا مبتلى
يؤكد "الديب" على ضرورة رفع مستوى الوعى المجتمعى، حتى لا يتكرر رد الفعل الشائع الكفيف بقول: "ربنا يشفيك" لأن الكفيف ليس مريضا، الكفيف مُبتلى، الأمر الذى يؤثر فى نفسيته سلبا.
ويشكو "أبو النور" من عدم حصول الأكفاء على حقوقهم من الدولة، خصوصا فى تعيينات 5% للمعاقين، حيث يحصل الأكفاء على نسبة ضئيلة براتب ضئيل، بالإضافة إلى رفض طلب الكفيف للحصول على كشك.
ويطالب "بديع" بنفس امتياز المعاقين للأكفاء والحصول على سيارة معافاة من الجمارك ليتمكن الأبناء من توصيلهم بها.
يأمل "عبد الخالق" تنفيذ أفلام وثائقية عن المكفوفين؛ لتوضح أن الكفيف ليس شخصا متسولا يحتاج للإعانة المادية، ولكنه إنسان لديه مواهب وقدرات خاصة.
وطالب بتبنى رجال الأعمال لمشروعات يعمل بها الأكفاء، قائلا: (نحن لا نريد تبرعات، بل نريد بناء مصانع وشركات نعمل بها ونكسب قوت يومنا من عرق الجبين، فنحن لدينا بالمركز مصنع للنجف يعمل به زملائى، وآخرون يعملون بمطبعة برايل، ونعمل أيضا فى تقطيع البلاستيك بالمشارط بمهارة دون جرح أيدينا، ونستطيع تركيب مشابك الغسيل وأسلاك العجلات وكراسى الخيزران).