فيما انتقد مثقفون ومؤرخون بشدة الأكاديمى والكاتب الروائى الدكتور يوسف زيدان الذى استخدم مؤخرا مفردات صادمة فى حق رمز تاريخى كبير هو صلاح الدين الأيوبى فإن هذه المعركة الثقافية الجديدة تثير تساؤلات حول الفارق بين حرية البحث وبين تحطيم الرموز التاريخية للأمة .
وكان الدكتور يوسف زيدان قد استخدم مفردات صادمة فى وصف صلاح الدين الأيوبى وكال له اتهامات متعددة فى سياق مقابلة تلفزيونية مؤخرا من بينها مواقفه المناوئة للفاطميين ليثير غضبا ظاهرا فى تعليقات العديد من المثقفين .
وفيما تتوالى التعليقات فى الصحف ووسائل الإعلام حول اتهامات يوسف زيدان للبطل صلاح الدين الأيوبى فإن هناك اتفاقا عاما بين المؤرخين على أن أى شخصية تاريخية "لها مالها وعليها ما عليها" غير أنه لا يجوز التهجم على الرموز أو الطعن فى مواقفهم دون دليل تاريخى دامغ.
وفى مقابلة صحفية تساءلت الدكتورة زبيدة عطا الله، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، "لماذا نضرب كل الرموز والقيم الجيدة التى نمتلكها"؟ معيدة للأذهان أن صلاح الدين الأيوبى "بطل معركة حطين" شخصية تاريخية مميزة وحارب الصليبيين واسترد بيت المقدس.
وفى الاتجاه ذاته قال الدكتور أيمن فؤاد، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، إن صلاح الدين الأيوبى من الشخصيات المهمة فى تاريخ العالم الإسلامى، فيما انتقد الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة ما ذكره يوسف زيدان بشأن البطل صلاح الدين الأيوبى معتبرا أن المؤرخ الحقيقى يتعامل مع أى ظاهرة بهدوء ويتحدث عنها بكل إيجابياتها وسلبياتها فى سياقاتها التاريخية.
وصلاح الدين الأيوبى ابن "تكريت العراقية" والذى ينتمى عرقيا للأكراد كان نموذجا فذا لمعنى الانتماء للثقافة العربية بصرف النظر عن الأصل العرقى وهو الذى انطلق مشروعه التاريخى من مصر الكنانة ليوحد من جديد عدة بلدان وأمصار عربية ضمن حربه الباسلة ضد المحتل ومعاركه المظفرة التى توجت بتحرير القدس الشريف من قبضة غاصب استمر فى احتلاله لنحو قرن كامل.
وفيما يعد صلاح الدين الأيوبى موضع اهتمام متجدد فى الثقافة الغربية ومصدر الهامات لكتابات وكتب متعددة فإن المفكر البريطانى والباكستانى الأصل طارق على كان قد أصدر عملا إبداعيا كبيرا حظى باهتمام بالغ فى الصحافة الثقافية الغربية وهو "كتاب صلاح الدين" ضمن سفر "خماسية الإسلام".
وفى هذا الكتاب الذى جمع مابين البحث التاريخى والخيال الإبداعى يمكن للقارئ أن يتذوق شهد الإبداع لطارق على ويعيش فى "قاهرة صلاح الدين" والحرب ضد المستعمر الصليبى وأفكار فلاسفة كبار مثل ابن رشد وابن سينا وابن ميمون والمؤرخ أسامة بن منقذ وعالم القرن الثانى عشر الميلادى وصراعات القوى الكبرى فى هذا العالم.
والملاحظة الدالة فى هذا السياق أن هذا المفكر الباكستانى الأصل الذى يحظى إنتاجه الثقافى باهتمام كبير فى الغرب لم يستخدم أبدا أى نعوت أو صفات ومفردات صادمة مثل التى استخدمها الدكتور يوسف زيدان عندما تحدث مؤخرا عن صلاح الدين الأيوبى الذى اقترن دوما فى العقل العام ووجدان الأمة بالبطولة والكبرياء باعتباره صاحب أحد أهم انتصارات العرب والعالم الإسلامى على مدى التاريخ .
ولئن تعرض الأكاديمى والكاتب والروائى الدكتور يوسف زيدان لاتهامات فى مطلع هذا العام بانتحال روايته الشهيرة "عزازيل" من رواية إنجليزية قديمة للكاتب تشارلز كينجسلى وعرفت باسم "هيباتيا" لتشتعل معركة ثقافية حول "الانتحال والاقتباس" فها هى معركة ثقافية جديدة تندلع الآن بعد أن استخدم زيدان "مفردات صادمة" فى حق صلاح الدين الأيوبى أثارت غضب العديد من المثقفين المصريين والعرب.
والشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبى الذى اعتبره الفيلسوف والمؤرخ الأمريكى وول ديورانت فى سفره الموسوعى "قصة الحضارة" نموذجا للعظمة والرحمة ينبغى أن تكون موضع بحث تاريخى متجدد ولكن بضوابط منهجية ودوافع ثقافية.
ومثل هذه الدوافع الثقافية لا تتضمن أبدا الرغبة فى تحطيم الرموز أو إهانة الأبطال التاريخيين لأمة من الأمم كما أن أى باحث حقيقى لا يمكنه الزعم "بامتلاك الحقيقة المطلقة فى عالم نسبى بطبيعته أو الادعاء بأنه يمتلك اليقين بشأن شخصية فى حجم صلاح الدين الأيوبى.
ومن المفارقات أن المعركة الثقافية التى أشعلها الدكتور يوسف زيدان جراء مفرداته الصادمة فى حق البطل صلاح الدين الأيوبى تأتى بعد أقل من أسبوع على انعقاد المؤتمر السنوى السابع عشر للجمعية المصرية للدراسات التاريخية والذى جاء هذا العام تحت عنوان "التدوين والنقد التاريخى حتى نهاية القرن التاسع عشر" وهو عنوان يومئ لطرق النقد كما تناول موضوعه المدارس التاريخية الحديثة والأدوات البحثية.
وفى هذا المؤتمر الذى حضره لفيف من المؤرخين والباحثين أشار رئيس الجمعية الدكتور أيمن فؤاد إلى ان "طرق النقد والمدارس التاريخية الحديثة والأدوات البحثية كلها قضايا لم تتوافر عليها دراسات شرقية متخصصة خاصة التدوين فى العصور العربية القديمة والإسلامية والحديثة".
وقد تتجلى المفارقة فى أن هذا المؤتمر استعاد ما ذكره مؤرخ مصرى كبير هو الراحل الدكتور رؤوف عباس حول "وجوب مواجهة الأهداف الظاهرة والخفية لتفكيك تاريخنا وتشويهه وتزييفه" بينما يعتبر معلقون الآن فى "خضم المعركة الثقافية حول صلاح الدين" أن الاتهامات الصادمة لهذا البطل التاريخى تدخل فى سياق "تفكيك تاريخنا وتشويهه وتزييفه".
وواقع الحال أن الجدل مستمر ومن شأنه أن يستمر حول الشخصيات التاريخية مثل صلاح الدين الأيوبى أو محمد على وجمال عبد الناصر والأحداث المهمة فى التاريخ كما حدث ويحدث بشأن ثورة 23 يوليو عام 1952 غير أن عميد الصحافة المصرية والعربية الراحل محمد حسنين هيكل كان قد لفت فى مرحلة سابقة شهدت غلوا فى حملات واتهامات تعرض لها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر إلى أهمية التمييز بين حرية البحث التاريخى وخطورة التهجم على الرموز التاريخية ومحاولة تحطيمها .
وفيما لفت فريق من المثقفين غير مرة لأهمية الانتباه للسياق التاريخى لهذه التجربة وحجم التحديات التى جابهتها كان الشاعر العراقى الكبير محمد مهدى الجواهرى قد وصف جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو "بعظيم المجد والأخطاء".
أما كتابات كبير الرواية العربية والنوبلى المصرى نجيب محفوظ عن هذه الثورة والتجربة الناصرية فتشير بصيغ مختلفة "لانجازات عملاقة مقابل اخطاء وخطايا تتعلق بالحريات وقضايا الديمقراطية وحقوق الانسان.
وفى سياق متصل أعاد الشاعر والكاتب فاروق جويدة للأذهان مسألة غياب وثائق ثورة 23 يوليو 1952 وقال إن "تاريخ ثورة يوليو تحول إلى دهاليز سرية لا يستطيع أحد أن يعبر فيها دون أن يصيبه شىء من غبارها ورغم اللجان التى تشكلت لجمع تراث هذه الثورة إلا أن معظم الوثائق اختفت ولم نستطع حتى الآن أن نقول إننا كشفنا أسرار ثورة يوليو".
وكان المؤتمر الأخير للجمعية المصرية للدراسات التاريخية قد أكد ضرورة "استخدام المنهج العلمى فى تناول التدوين فى إطار فلسفة التاريخ والجمع بين المصادر التاريخية والأثرية وكل ما يفيد فى فهم الحدث التاريخى" فيما قال الدكتور أيمن فؤاد "إذا لم توجد وثائق فلا تاريخ".
وإذا كان المؤتمر الأخيرة للجمعية المصرية للدراسات التاريخية قد ركز على بحث سبل تدوين التاريخ وجمعه وتحقيق التنوع البحثى فثمة حاجة لدراسات متعمقة فى التاريخ برؤى وقراءات متعددة بعيدا عن الغلو فى التمجيد أو التسفيه والتجريح وبروح من الموضوعية ومراعاة السياقات التاريخية ومعطيات زمنها وعصرها الذى يختلف بالضرورة عن الواقع الراهن.
ولئن أظهر الجدل الثقافى الراهن حول صلاح الدين الأيوبى أهمية الاعتماد على البحث التوثيقى بدلا من إطلاق الاتهامات جزافا فإن كتابة التاريخ لأى أمة بدقة وإنصاف يستدعى الأمر بلا ريب وجود استراتيجية واضحة للحفاظ على الأوراق والمستندات المتعلقة بتاريخ هذه الأمة بوصفها جزءا من التراث الإنسانى وهذه الاستراتيجية فى حالة مصر باتت تشكل ضرورة ثقافية لاغنى عنها فضلا عن أهميتها لمواجهة وإحباط أى مخطط للسطو على الذاكرة الوطنية والقومية.
وغنى عن البيان أن هذه الاستراتيجية ينبغى أن تتضمن تيسير سبل اطلاع الباحثين على الوثائق من أجل زيارات جديدة وأمينة للتاريخ وفتح الباب أمام تقييمات جديدة وفعالة لسنوات حافلة اضطرمت فيها الأحداث واختلفت الرؤى.
وهكذا يطالب الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور محمد عفيفى وهو فى الأصل أستاذ للتاريخ بكلية الآداب فى جامعة القاهرة بوضع المعيار الخاص لحرية تداول المعلومات لأن ذلك هو أساس مشكلة التعامل مع الوثائق.
كما دعا لتقليل مدة حجب بعض الوثائق بحيث تكون 30 عاما بدلا من 50 عاما مثل باقى الدول التى تحترم مبدأ حرية تداول المعلومات ويتم الكشف عن كل هذه الوثائق ما لم تتعارض مع السياسة العليا التى تحددها لجنة مختصة.
وبعيدا عن لغة المفردات الصادمة التى استخدمها الدكتور يوسف زيدان فى حق شخصية تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبى فمن الأهمية بمكان القيام "بزيارات جديدة للتاريخ بعيون عربية" على أن تراعى هذه الزيارات الضوابط المنهجية المتعارف عليها عالميا.
وفيما أكد المؤتمر الأخير للجمعية المصرية للدراسات التاريخية أهمية دراسة واستقراء الماضى لفهم الحاضر والمستقبل فإن مؤرخين مصريين بذلوا جهودا لا يمكن إنكارها لتوصيف وتعريف مراحل مفصلية فى التاريخ المصرى والعربى ضمن سعى معرفى لتقديم "رواية تاريخية متماسكة ومقبولة منهجيا بالقواعد والأسس المتعارف عليها أكاديميا فى علم التاريخ" .
وقد تكون "الزيارات الجديدة للتاريخ" مطلوبة حتى لعصور موغلة فى القدم مثلما يفعل الباحث والأثرى الكبير الدكتور زاهى حواس فيما جاء كتابه الأخير "أسطورة توت عنخ آمون" حافلا بالحقائق الجديدة والتفاصيل المشوقة.
والكتاب يشكل فى الواقع خطوة جديدة وكبيرة على طريق استكمال المشروع الثقافى لمثقف وطنى نذر نفسه وكرس علمه دفاعا عن مصر الخالدة ورسالتها الحضارية للعالم قاطبة وتضمن معلومات جديدة عن هذا الملك المصرى الشاب المثير للجدل وتفاصيل وفاته التى بقت محاطة بالألغاز.
وبعيدا عن الوقوع فى فخ الغلو فى تمجيد الذات القومية أو ما يسمى "بالمشاعر الشوفينية" فإن الكتاب الأخير للدكتور زاهى حواس عن توت عنخ آمون يقدم للعالم أمثولة ثقافية مصرية فى البحث واستجلاء أوجه العظمة فى تاريخ مصر الخالدة والتى سبق أن تناول أديب مصر النوبلى نجيب محفوظ طرفا منها فى بداية مسيرته الروائية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة