قليلون هم فى حياتنا الذين نطلق عليهم لقب الأستاذ.. وهو اللقب الذى نقصد به أولئك القادرين دوما على التعليم والتعلم، والذين لا يتعالون على ذلك، بل يؤكدون عليه طوال الوقت والنجم الكبير «محمود حميدة» هو واحد من هؤلاء «حميدة» دائما ما يردد عبارات من نوعية «بناتى علمونى»، الأجيال الشابة أعطتنا دروسا وفى نفس الوقت هو يملك رصيدا من الخبرة المعرفية والحياتية، التى تجعله ملهما للبعض.
سنوات طويلة مرت بين آخر حوار أجريته مع النجم المبدع واللقاء، الذى جمعنا مؤخرا، لم يتغير الكثير مكتب الأستاذ كما هو حائطه مزين بصور رواد الفن وصناعه ومجدديه من طلعت حرب، ومحمد فوزى وإسماعيل ياسين ازداد عدد الصور فقط لتضم الأصدقاء، الذين فقدهم حميدة، استقبلنا الأستاذ وهو يجلس خلف مكتبه محاطا بكتبه كالعادة وفى الخلفية الموسيقى «الكلاسيك»، التى يعشقها يرتشف قهوته، وهو يدعونا للجلوس مرحبا وقد أكون أنا قد اعتدت على الأستاذ وملامحه الواضحة، التى يخشى البعض حدتها أو أراءه الصادمة، خصوصا أننى أدرك أن وراءها إنسانا وفنانا متسقا مع ذاته ولا يقول إلا ما يشعر أو يقتنع به سواء فى السياسة أو الحياة ولا يخاف أن يتحدث بدون خجل أو مواربة عن أخطاء قام بها فى حياته وتعلم منها.
لذلك كان أمتع شىء فى هذا اللقاء إلى جانب الحوار الشيق والمتصاعد مع الأستاذ هو مراقبة زميلى خالد إبراهيم، وكريم عبدالعزيز، الذى جاء كل منهما محملا بتصور خاص عن حميدة، وكيف أن كل منهما كان يتعامل بحذر وترقب إلا أن وصل الأمر إلى ذروته عندما أصبح الاثنان على سجيتهما خالد يسأل وكريم يلتقط صوره بأريحية والأستاذ يتجاوب ويجاوب ويطيل النظر إلى خالد كأنه يريد هو الآخر أن يعرف كيف يفكر هذا الجيل.. هذا هو الأستاذ كما عرفته دوما، يملك شغف المعرفة وحب المغامرة والاكتشاف.
حميدة ليس مجرد فنان قدم للسينما العديد من الادوار المتميزة بل هو مؤسسة سينمائية حقيقة، اطلق مجلة متخصصة فى السينما واكتشف العديد من المواهب الشابة فى التأليف والإخراج والكتابة.. وأجمل ما فيه ويميزه عن غيره هو أنه لا يعيش فى كوكب عاجى ولا يعزل نفسه عن التواصل مع كافة الأجيال لذلك تجد أن له شعبية طاغية عندهم. كما لفت نظرى أنه قبل دخولنا كان يقرأ رواية بعينها تبدو طبعتها قديمة وسألته ماذا تقرأ؟ رد: أولاد حارتنا وكأنه يؤكد إعادة اكتشافه للأشياء من جديد، وبالتأكيد القراءة الأولى تختلف عن الثانية والثالثة لأنك تكون قد خبرت الكثير من الأشياء لذلك كان من الطبيعى أن يكون أدب نجيب محفوظ هو مفتاح حوار اليوم السابع مع النجم المبدع.
بمناسبة نجيب محفوظ.. بتحب أولاد حارتنا أكثر ولا الحرافيش؟
- فى التذوق الأدبى، الأمر لا يقاس هكذا، لأن الأدب استمتاع، ويوسع المدارك، ويعطى القارئ الكثير من الأشياء، التى لا يستطيع أن يحصل عليها عن عمد، ولكن الأدب درجات، أما فى حالة أولاد حارتنا، فالبعض يراها مباشرة، بسبب «رسمها الأدبى» والرمزيات، التى يتضمنها العمل، ولكنهم لا يقرؤون الأدب نفسه، والمشاعر التى يصفها محفوظ فالمتلقى أنواع هناك تلقى يكون به «تحفز»، وهو نوع ليس له أى فائدة، ولكن الاستغراق بحب أولا، بغية الاستماع، يؤتى ثماره.
فى فترة مهمة من السينما المصرية.. كانت الأعمال السينمائية تركز على أدب نجيب محفوظ، هل نستطيع حاليا التعامل مع هذا الأدب بنفس درجة الحرية؟
- نستطيع فى أى وقت، أن نتعامل مع أدب نجيب محفوظ، فإذا كنت تقصد «الرقابة» فهى موجودة طول الوقت، وإذا لم تكن الرقابة الخارجية، سنواجه الرقابة الذاتية، لأننا لا نستطيع أن نترك مساحة بين ما نعتقد، حتى نتفحصه، فهناك أشياء، فى معتقداتنا تمنعنا من أفعال وأقوال، وهذه هى الرقابة الذاتية، مثل السرقة أو الزنا والكذب، فحينما أسرق أو أكذب، يمنعنى شىء ما بداخلى، أما الرقابة الخارجية، فهى التى ينصبها المجتمع، فى شكل عادات وتقاليد وأعراف والمعتقد، لضبط السلوك العام، وهنا يوجد مغالطة كبيرة، ولكن بشكل عام فالرقابة دائما عنيفة، فالخوف من السلطة موجود دائما، والسلطة التى تطمئن لسلطتها تزول فورا، وأصحاب السلطة يدركون ذلك، فهناك حالة من الذعر والحساسية، ليس فقط فى السينما، ولكن داخل البيوت، وأعتقد أن تفسير ذلك هو نتاج اجتماعى طويل فسره مراد وهبة، فى فكرة انفجار المعرفة مصاحبة للانفجار السكانى، فى الكوكب كله ليس فى مصر فقط، فالأديب قديما كان يكتب الرواية، وينتظر طباعتها ونشرها، وأحدا يقرؤها، ثم تدور عليها المناقشات، أو الخبر الذى ينتقل من بقعة لبقعة فى الأرض، ويأخذ وقتا، أما حاليا «قتل الزمان والمكان».
ما رأيك فى تصريحات الشيخ سالم عبد الجليل عن تكفيره للمسيحيين؟
- «هى دى الأصولية»، وموجودة فى كل الأديان، وهنا أعود للخلف لفكرة «الدوجما»، التى تربيت عليها جميع الأجيال، فالعملية التعليمية تتم بالتلقين والحفظ، ثم تذكر، فالسؤال فى الامتحان له إجابة واحدة فقط، وبالتالى هنا التربية قائمة على فكرة «الدوجما»، ودائما ما أسأل نفسى: لماذا أستاء حينما يقول أحدهم رأيا غير رأيى، وأحيانا أصل لغضب عارم، ولكن كثيرا ما أضبط انفعالاتى، وجميعنا تمت تنشئتنا على هذه الطريقة، ولكنى أقول إننا نستطيع أن نخرج من هذه الحالة بالتعليم.
بمناسبة التعليم.. كيف ترى المشهد التعليمى والثقافى فى مصر؟
- فى مصر هناك تعليم غير منظور، فحاليا الآباء لا يعرفون أى شىء عن مصادر الأبناء المعرفية، بمعنى أن قديما كان المحيط الخاص بى معروف بالحى والمدرسة والنادى، وأهلى يدركون ذلك، ولكن حاليا من الممكن أن يحكم العالم شخص من خلال جهاز الكمبيوتر الخاص به، ويكون ابنى «وأنا ماعرفش»، وأعتقد أن خلال الفترة المقبلة، سيحدث شىء، لا يستطيع أحد من المحللين والمراقبين أن يرصده، كما حدث بالضبط، مع ثورة يناير وهنا أتحدث عن الـ 18 يوما فقط، حينما كان الشباب «طوفان» وجيلنا ظل ينظر إليهم مذهولا.
وأين السينما من كل هذا الوضع؟
- موجودة، ولا تنفصل أبدا عن هذا الواقع، قد يحلو للبعض، أن يرى نفسه أعلى من الآخر فالسينمائيون، يرون أنفسهم أعلى من الراقصين، والأطباء يرون أنفسهم أعلى من المهندسين، وهو أمر موجود فى الطبيعة البشرية، فقديما حينما بدأت أعمل بالسينما، كانوا يسألونى عن العمل فى الغرب، والهجرة، ولكنى كنت أرى أن من يقوم بهذا من أجل تحسين ظروفها المادية، يظلون مرتبطين بالوطن، حتى الموت، فمن يظن منا أنه ناج بنفسه من الهلاك، فهو واهم.
أنت من أبرز الفنانين المهمومين بفكرة صناعة السينما والارتقاء بها ومحاربة القرصنة.. حدثنا عن ذلك؟
- القرصنة قضية قانون دولى عام، ولكنه لا يفعل فى مصر، ففى عام 1999، حضرت مؤتمرا عن السينما والقانون فى «لاس فيجاس»، وفى هذا الوقت، كانت الصناعة فى هوليوود قرروا إعادة ترتيب مواقع دعائم الصناعة، فكان ما قبل الإنتاج والتصوير يتم فى كاليفورنيا، أما مراحل ما بعد الإنتاج او post productionكانت، تتم فى كندا، لأنها الدولة الأولى فى الاتصالات، فجمعوا محامين فى الولايات المتحدة وأعطوا محاضرات لمدة أسبوع حتى إصدار القانون الجديد، الذى سيطبقونه، لإعادة مرحلة ما بعد التصوير والإنتاج، فى «لاس فيجاس»، لتكون العاصمة الثقافية، ليس فقط للسينما، ولكن كل ما هو ترفيهى وله علاقة بالاتصالات، أما هنا فأولا لابد من وجود قانون للصناعة، فحينما أنشأ طلعت حرب هذه الصناعة ضمن صناعات أخرى، كلها تدهورت، وعندما ذاكرت الأمر اكتشفت أنها ليس لديها قانون إنشاء، وأنها تتبع القانون المدنى العام، وهنا لابد الإشارة إلى أن البعض ادعى أن الصناعة تدهورت منذ ثورة يوليو، ولكن الصناعة تراجعت بسبب عدم وجود قانون ينظمها، ولذلك فهى فى تدهور منذ بدايتها، فقانون الصناعة لابد أن يوصف الوظائف، ويحدد مسؤوليتها، والحدود المترتبة على المسؤوليات، بما يسمح إنشاء نظام رقابى يعين على التطور، أو مراقبة الأداء، وفى نفس الوقت، يكون الدراسين للسينما مدركين، لطبيعة المرحلة التى تلى الدراسة، وأعلنت من قبل، أن لدى مشروعا لمؤتمر، لعمل قانون للصناعة، ليس لمصر، ولكن لكل العالم العربى.
ولكن هناك الكثير من المحاولات التى بذلت من أجل أن تنظر الدولة للسينما وشكلت لجانًا لذلك؟
- فكرة أن السينمائيين يذهبون هنا وهناك، غير مقتنع بها تماما، لأن «مين اللى بيشكل اللجان ديه»، فلدينا عقول فى مصر، تصلح السينما فى أقل من عام، ولكنهم مستبعدون، فأين الشباب أصحاب الفكر الجديد، فأحد الأشخاص قال لى إنه نظم مؤتمرا للسينما، وحينما سألته عن الأشخاص المحاضرين فى هذا المؤتمر فقالى لى بعض الأسماء، وللأسف هم نفس الأشخاص، الذين يقولون نفس الكلام من قديم الأزل، ومنذ دخولهم الصناعة، فحينما أقابل شبابا سينمائيين أسعد بشدة، ولكنى حزين لعدم قدرتهم على فعل شىء.
هل تحب مصطلح «السينما المستقلة»؟
- هذا المصطلح خال من المضمون، فلابد من كيان كبير، حتى يستقل الشباب عنه، وهذا النموذج موجود فى أمريكا فقط، وهناك الاستقلال له مفهوم آخر، فنظام توزيع الأفلام، كان بنظام مرتبط بالبورصة، فكل شركة سينما لهم نظام واحد، المخاطرة به محسوبة، ولذلك فنحن ليس لدينا استثمار حقيقى للسينما، وليس هناك بنك يمول، لعدم القدرة على حساب المخاطرة، أما فى أمريكا، فالبعض أراد تقديم أفلام، وفشلوا فى دخول هذا النظام، لأنهم إذا دخلوا هذا النظام، سيفشلون فى التوزيع، لذلك قاموا بعمل «رابطة» هم «المستقلون عن النظام، فى مصر يقول البعض أنه ينتج سينما مستقلة، ولكن فى حقيقة الأمر هى سينما «اندرجراوند» وهو «اللى ماعندهوش توزيع».
ناقشت فكرة التطرف فى كثير من أعمالك.. هل تعتقد أن لدينا القدرة على الحرب على الإرهاب بالسينما؟
- كلمة «حرب» نفسها إرهاب، وأعتقد أن الأصح هى «التخلص» من نزعة الإرهاب الموجودة لدينا جميعا، الناشئة عن فكرة «الدوجما»، التى تحدثنا عنها من قبل، أما مقولة قدرة السينما على التخلص من الإرهاب هى أمر لا يمكن إثباتها للأبد فمن يقول أنه يصنع فيلما لمواجهة الإرهاب أو الإدمان، هو ادعاء وكذب، لا يمكن إثباته، فجميعها أشياء نقولها عن أنفسنا لنعلى من شاننا مثل المنتج، الذى يقول بأنه أعاد السياحة من خلال أحد أفلامه، وبهذه المناسبة أؤكد رفضى لمصطلح «القوة الناعمة» لأن القوة لها مقياس واحد فقط، نقيسها بـ «الحصان»، ولذلك لا نعومة فيها، هناك شراسة واختراق فقط، والسينما هى أشرس قوة موجودة على وجه الأرض، وأشرس من السلاح بملايين المرات، فبيت شعر يصنع انتصارا فى حرب أو استقلالية، رغم عدم قوته أدبيا، وهو «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد لليل أن ينجلى ولابد لليل أن ينكسر»»، ولا مفر من عودة الدولة للقيام بدورها فى السينما، وعليها استغلال كل مقاوماتها حتى وإن كان بنسبة معينة، فالتعليم لا يتساوى مع السينما، لأن هناك أولويات.
كنت رئيسا شرفيا لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى. وتعرضت للانتقاد بسبب عدم تحدثك بكلمة واحدة. هل لديك أفكار تتعلق باستغلال الشباب؟
- اقترحت تشكيل creative team، قوامه 50 شخصا، وأعمارهم من 15 إلى 25 سنة، فاندهش القائمون على المهرجان من الطلب، واشترطت أن أنتقيهم بنفسى، من الجامعات والنوادى، والأحياء الشعبية، على أن يعملوا لمدة شهر، حتى يضعوا حلول للسينما، وبالطبع لم يحدث، وكانت حجة الإدارة أن الوقت كان ضيقا، ففكرت أن أدخل المهرجان كرئيس شرف على «كرسى متحرك»، وفكرة الرئاسة الشرفية لن تتكرر مرة أخرى.
لماذا أنتجت فيلم «جمال عبد الناصر»؟
- مخرج الفيلم هو أنور القوادرى، ابن تحسين القوادرى، وهو موزع ومنتج شهير، وكان يحبنى جدا، ويرعانى رغم عدم وجود عمل بيننا، فتعرفت على أنور حينما كان يدرس السينما، ومشروع أيمن كان سيقدمه فى إنجلترا بممثلين إنجليز، ثم توقف الموضوع، فاختار أن يقدم الفيلم أحمد زكى، ولكن زكى قدم ناصر 65، فقال لى «عاوزك تعملى الفيلم وتنتجه» فأنتجه شريكى عادل الميهى، والتمويل كان من شخص سورى، ثم اختلفت معه فى تجسيدى للشخصية، فهو كان يريد تقديمنى بأبعاد الفيزيقية، وأنا ضد هذه الفلسفة، لأنها تمنع الممثل عن المتفرج.
وبمناسبة الفيلم.. هل تحب جمال عبد الناصر؟
- بالطبع، أحب جمال عبد الناصر، وأنظر له كزعيم، فأنا ولدت عام 1953، بما يعنى أن الثورة أكبر منى بسنة، ونشأت فى ظل الحكم بتاعه، ومفعمين بالقوة والفخر والعزة والوحدة والتحرر العالمى، فأنا واحد من رجال عبد الناصر، ولكن بعد هزيمة 67 حدث لى تمزق، فأنا شخصيا كنت فى ثانوى الطالب المثالى على الجمهورية، ولكن بعد الهزيمة، أصبحت على النقيض تمامًا، وعلى العكس كان ابن خالتى إبراهيم أبو سنة وهو يعتبر توأمى، أصبح منظر التكفير والهجرة، وهذا التمزق، وليس انكسارا لأنه ماينفعش.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة