ـ كيف راقبت الاستخبارات الأمريكية لقاءات «نور» والإخوان قبل الانتخابات الرئاسية
ـ تفاصيل 45 يوما «ضغوط أمريكية» للإفراج عن أيمن نور
فى بناية متواضعة داخل شارع الملك الصالح بمنطقة المنيل، كانت الحركة أكثر نشاطاً عما هو معتاد، تراصت المزيد من الأحذية أمام الشقة الكائنة فى الطابق الأول منذ أن صادفت ساعة الانتخابات توقيت القاهرة، ومنذ أن قرر رموز وأقطاب المعارضة المجازفة بمنافسة حسنى مبارك، وما يمتلكه الحزب الوطنى من مؤسسات وإمكانيات، وما تمتلكه دولة الحزب من يد أمنية ثقيلة، فى أول عملية انتخابية تعددية تشهدها البلاد.
أعلى الأحذية المتراصة كان شعار جماعة الإخوان مزينا بكتاب الله وسيفين يستقبلان الطامعين فى دعم الجماعة قبل ساعة الصفر فى سباق الانتخابات الرئاسية لعام 2005. كان الطريق إلى المبنى الذى حمل رقم «20» تحت أعين الجميع.. استعان اللواء حبيب العادلى وزير داخلية مبارك بأكفاء عناصر جهاز أمن الدولة لمراقبة المشهد، وفى زوايا ليست بعيدة، كان عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يرصدون فى ترقب المترددين الجدد، ومن بينهم ذلك السياسى الشاب أيمن نور، الذى حل ضيفاً فى حضرة المرشد محمد مهدى عاكف، على أمل استمالة كتلة تصويتية كانت تقدر فى ذلك الحين بـ2 إلى 2.5 مليون ناخب.
تعدد زوار المرشد، إلا أن أيمن نور دون غيره نال القسم الأكبر من اهتمام واشنطن وعملائها، فعلى الرغم من امتلاكه مسيرة فى الحياة السياسية والبرلمانية ليست بالقليلة وتمتعه بقدر من الشعبية وسط أبناء دائرته فى باب الشعرية والموسكى، فإنه كان حديث العهد مع الأضواء والشهرة قبل أن يفاجئ الجميع ويلمح إلى ترشحه أمام الرئيس مبارك.
بأعين لم يغب عنها الإخوان، راقبت الاستخبارات الأمريكية تحركات أيمن نور، ورسمت مبكراً سيناريوهاتها بدقة، تيقنت واشنطن أن المحامى الشاب الطامح فى السلطة سيكون رقماً صعباً فى المعادلة، وأحد العناصر القادرة على المشاركة- مع آخرين- فى كتابة سطور النهاية فى نظام حسنى مبارك، حتى وإن لم يفز فى الانتخابات المحسومة سلفاً بفضل الإمكانيات والحملات الأمنية، وامتلاك القسم الأكبر من منابر الرأى والإعلام، وبفضل التزوير.
وفيما كانت النخبة السياسية مشغولة فى حديث منظمات المجتمع المدنى، وكيف تتم مراقبة العملية الانتخابية، كانت الدولة قد بدأت بالفعل رصد اتصالات واشنطن مع أيمن نور بفضل جهاز أمنى لم تعرف الثورات واقتحامات السجون طريقاً له فى ذلك الحين، تزايدت التحركات من وراء الستار، وبدأ بعض أركان النظام وكبار قيادات الأجهزة الأمنية يستشعرون القلق، فأقدموا فى تصعيد لافت على إلقاء القبض على المحامى الشاب فى يناير 2005 بتهمة تزوير توكيلات ألفى شخص لتأمين حصول حزب الغد على الترخيص.
وقبل أشهر من انطلاق مارثون الانتخابات الرئاسية، كانت القاهرة على موعد مع ضيف ثقيل، وكان وزير الخارجية أحمد أبوالغيط- أمين عام الجامعة العربية الحالى- مطالباً بامتلاك المزيد من المهارات الدبلوماسية لتلافى تصريحات نظيرته الأمريكية كونداليزارايس، التى جاورته فى مؤتمر صحفى، وطالبت بـ«حلول سريعة» لأزمة اعتقال أيمن نور، لتعكس بذلك هجمة واشنطن الشرسة، التى اختارها نظام مبارك قبل أن تختاره بقراره الذى جانبه قدر من الصواب.
داخل مكتبه المطل على مبنى التليفزيون ونيل القاهرة، كان الوزير أحمد أبوالغيط يدرك أنه ربما يكون ضمن قائمة «الأسوأ حظاً» فى تاريخ وزارء الخارجية المصرية، وربما يربط البعض- بقصد أو بدون قصد- بينه وبين تدهور العلاقات المصرية- الأمريكية، إلا أن ما يحاك خلف الكواليس من مؤامرات ضد نظام مبارك، كان أكبر كثيراً من أن يتصدى له دبلوماسى يمتلك تاريخاً حافلاً فى ميادين المجتمع الدولى.
لم يكن حديث وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزارايس عن أيمن نور هو أول استخدام من الإدارة الأمريكية لهذا الاسم، ففى مدينة ميونيخ، وفى وقت كان كولن باول لا يزال وزيراً لخارجية جورج بوش الابن، كان الوزير أبوالغيط على موعد مع بدايات الأزمة على هامش مشاركته ومسؤولين أمريكيين وأعضاء بالكونجرس فى مؤتمر للأمن الأوروبى ودور الشرق الأوسط فى مواجهة التطرف، فوجئ أبوالغيط فى ذلك الحين بهجوم حاد على النظام المصرى يتهمه علناً بتقييد الحريات بسبب إلقاء القبض على نور، وكان على رأس المهاجمين السيناتور جون ماكين، الذى ألقى بيانه على منصة واحدة جمعته بالوزير المصرى، واتهم مبارك صراحة بالدتكاتورية دون أن يتمكن الأخير من الرد خوفاً من احتدام الأزمة.
ومن واشنطن إلى القاهرة، كانت خيوط أزمة أيمن نور تتشابك وأمام ابتزاز الخارج وضغوط الداخل، رضخ نظام مبارك وأفرج بعد 45 يوماً كاملة عن السياسى الشاب الأكثر إثارة للجدل، ليخرج الأخير ويصدر العدد الأول من صحيفة حزب الغد، التى حملت معها إعلان ترشحه رسمياً للانتخابات الرئاسية ليحرك الكثير من المياه الراكدة فى الحياة السياسية المصرية، ويدفع الجميع- بقوة الأحداث- إلى التزام مقعد المتفرج دون سؤال عن تكلفة مقر فاخر لحزب وليد يترأسه محام اختار امتهان الصحافة، ودون سؤال عن تكلفة خروج صحيفة إلى النور اختار رئيسها أن يمتهن السياسة.
كان أيمن نور على موعد مع مناورات عدة مع نظام مبارك ساحتها القضاء وسرايا النيابات، وكان أيضا على موعد مع المزيد من الاتصالات واللقاءات ـ السرية والعلنية ـ مع المسؤولين الأمريكان وعناصر الاستخبارات الأمريكية، وما بين السجن والمؤتمرات الانتخابية كانت لافتة الإخوان المسلمين فى المبنى 20 على موعد جديد مع حذاء أيمن نور مرات عدة.. تحت أعين الـ«CIA» خلع المرشح الشاب مع حذائه الكثير من مبادئه فى حضرة المرشد، وتخلى كثيراً عما أعلنه من مبادئ ليبرالية طمعاً فى دعم لم ينله من الجماعة، التى قررت عدم تأييد أى مرشح فى سباق الرئاسة، وترك الحرية لأعضائها فى اختيار ما يرونه مناسباً فى خطوة اعتبرها مراقبون بمثابة صفقة غير معلنة مع نظام مبارك.
كشف هامش الحرية اللافت الذى منحه مبارك لجماعة الإخوان فور فوزه بولاية رئاسية جديدة ملامح الكثير من الصفقة، التى عقدها النظام مع الجماعة قبل انطلاق انتخابات الرئاسة، منحت الأجهزة الأمنية عناصر الجماعة مساحة أكبر للحركة بالتزامن مع الإفراج عن قيادات من الصف الأول داخل الإخوان، ومن بينهم الدكتور عصام العريان وآخرون، وانتزعت الجماعة 88 مقعداً فى انتخابات برلمان 2005 فى مفاجأة لم تتوقعها النخب الليبرالية وأحزابها، ولم ينجح فى استيعابها معسكر اليسار والاشتراكيين، وربما لم يتوقعها النظام نفسه، ليكشر الإخوان عن أنيابهم، ويقدمون أنفسهم البديل الأقوى للحزب الوطنى، والكيان الأكثر تنظيماً فى حياة سياسية أصابها الكثير من الركود، وقبل ذلك كله يوجهون رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى البيت الأبيض، كان لها صدى بالغ داخل أركان إدارة جورج بوش الابن والجمهوريين الجدد داخل الكونجرس وخارجه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة