كان الحديث فى مفتتح هذه المقالات عن مفهوم الإنسانية قبل التدين، وأوضحنا أن هناك فرقا بين الدين والتدين، فالدين جاء من عند الله، والتدين هو أخذنا لما جاء من عند الله.
اليوم نود أن نتكلم عن مفهوم الإنسانية فى ضوء ما فهمناه من دين الله.
فمن الناس من يتكلم عن الأنسنة كبديل للديانة، وليس هذا ما نتحدث عنه
ومن الناس من يتكلم عن الإنسانية مرتبطة بالعواطف الراقية وهذا معنى جميل.
لكن الذى نتحدث عنه اليوم من مفهوم الإنسانية معنى نحاول أن نتعمق فيه أكثر، ليبرز لنا وجه ارتباطه بالدين والتدين، تأثير الدين على الإنسانية، وتأثير الإنسانية على التدين.
هناك سورة فى القرآن يمكن أن تعتبر بحق هى المعيار وهى الميزان فى توصيف عميق لمفهوم الإنسانية،
يقول الله سبحانه وتعالى:، «الرَّحْمَنُ»
وهو اسمٌ يتعلق بذات الله عزّ وجل، ويتفرع عنه جميع صفات ومعانى الرحمة التى تتصل بالخلق التى يختص بها ثمانية متتابعة.
«عَلَّمَ الْقُرْآنَ» أى الدين هنا
خَلَقَ الْإِنْسَانَ»: الإنسانية
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ»: التدين
فقدّمَ هنا ذكر الإنسان متصلًا بخلقه له على ذكر «علَّمهُ البيان»
أى أنّ ما يظهر من الإنسان من بيان مفهومه للتدين، من بيان صلتهِ بالخلق، من خلال ارتباطه بخلق الله له وتعليمه القرآن، قائم على معنى كونه إنسانًا.
«الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ»
إذ كل العلوم التجريبية تقوم على الحساب، والكون فى حالٍ من الحركة القائمة على قوانين ثابتة «بحسبان»، يستكشفها الإنسان ويتعرف عليها
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ»
لأن مجمع الكون: نجم فى الأعلى يلقى بضوئه إلى الأسفل، حيث يوجد الإنسان، وشجر فى الأسفل يصعد إلى الأعلى وكلاهما يلتقيان، ككل ما فى السموات والأرض، على صفة السجود، أى الدلالة على الله والخضوع له سبحانه
«وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا» حيث يرنو الإنسان إليها
وَوَضَعَ الْمِيزَانَ»
جعل الله تعالى لنا فى الأرضِ ميزانًا نرتقى به إلى الأعلى
ما هذا الميزان؟
يقول الإمام نجم الدين الكُبرى: «الميزان هو القوة العقلية المُميّزة للصواب وللعدل»
«أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ»
أى لا تجعلوا صلاتكم وتعاملكم من خلال الميزان بالطغيان، بمعنى الاستخفاف بإضاعة العدل وضعف الوازع عن الظلم.
لكن من أين يأتى الطغيان؟
إذا كان كل مولود يولد على الفطرة، فما الذى أخرجه عنها؟
الاستسلام لرغبات النفس الأمارة بالسوء من خوف أو جبروت أو سلطة وغيرها من الأهواء.
رغبات النفس شىء متصل بحفظ وبارتقاء إنسانية الإنسان، لكن إن أضاع الميزان فقد إنسانيته هذه، ولهذا قال الله عزّ وجل: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ»
لا تجعلوا الرغبات والانطلاق فيها تطغيكم
ولو كانت باسم الدين
ولو كانت باسم الإنسانية
لكن ما ضرر الطغيان؟
الكثير منا قد يفهم أن ضرر الطغيان متصل بما نراه ونسمعه من الظلم والقتل والأذى فى الحياة، وهذا صحيح.
لكن قبل هذا كله، الطغيان يهدم إنسانية الإنسان، فيتحول من رتبة التكريم إلى أسفل سافلين، وعندئذٍ يتوقع منه أن يُخرِّب ويفسد كل شىء.
والمقصود أن نستوعب أن الإنسانية التى نتحدث عنها هى اتزان الإنسان بالميزان الذى يحفظ له الجمع بين رقيه فى القيم والأخلاق وحسن تعامله مع رغباته ليصدر بذلك عنه تصرف يحسن به إدارة ما استخلفه الله عليه فى الأرض وحسن عمارته.
وللحديث بقية بإذن الله عزّ وجل.