ممارسات التصعيد الإسرائيلى فى القدس صورة مؤكدة لـ ثقافة التطرف

الخميس، 20 يوليو 2017 06:00 ص
ممارسات التصعيد الإسرائيلى فى القدس صورة مؤكدة لـ ثقافة التطرف القدس
أ ش أ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تشكل الحلقة الجديدة من ممارسات التصعيد الإسرائيلى مؤخرا فى القدس، والتى طالت المسجد الأقصى، تعبيرا صارخا لثقافة التطرف التى استفحلت فى المجتمع الإسرائيلى بصورة دفعت مثقفين فى إسرائيل والغرب للتحذير بشدة من عواقب هذه الثقافة العدوانية.

 

واتخذ المخطط الإسرائيلى لتهويد القدس أبعادا نوعية خطيرة أفصحت عنها الاعتداءات الأخيرة على المسجد الأقصى، بقدر ما تعبر هذه الاعتداءات عن تعاظم واستفحال ثقافة التيار الاستيطانى المتطرف فى إسرائيل.

 

فإسرائيل تتجه نحو ثقافة أكثر تشددا وعدوانية وإقحاما للدين فى السياسة، كما تعبر عنها أفكار أحزاب مثل "اسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودى" و"شاس" و"التوراة" وبكل ما تعنيه هذه الثقافة اليمينية العدوانية من انعكاسات على أمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها مع الاستمرار فى المد الاستيطانى والتهويد.

 

وخلال الأسبوع الأخير توالت الصور الصادمة لاعتداءات مجموعات من المستوطنين الصهاينة على المسجد الأقصى مع محاولات سلطات الاحتلال لمنع المسلمين من الصلاة بمسجدهم فيما شكلت هذه الاعتداءات نقلة نوعية فى الممارسات الاستفزازية الإسرائيلية فى محيط الحرم القدسى الشريف.

 

وفى طرح نشرته مؤخرا دورية "نيويورك ريفيو" التى تعد من أهم الوسائط الإعلامية الأمريكية المعنية بالقضايا الثقافية اعتبر الكاتب والأكاديمى دافيد شولمان أن إسرائيل تحاول "إضفاء المنطق على اللامنطق" ولن تؤدى سياسات حكومتها فى الضم والاحتلال إلا لإصابة الكيان الإسرائيلى بالتفسخ الأخلاقى والانحطاط فيما تعرضت الدولة لما وصفه "بقرصنة المستوطنين".

 

وكأستاذ جامعى إسرائيلى وناشط ثقافى وصاحب إسهامات أكاديمية مهمة فى حقل الدراسات الدينية يبدى دافيد شولمان انزعاجا من اقترانه بدولة باتت تقترن فى الأذهان بفكرة الاحتلال، موضحا أنه عندما غادر الولايات المتحدة وجاء لإسرائيل كشاب صغير منذ أكثر من نصف قرن لم يكن وراء هذا القرار أى دافع عقائدى فهو لا ينتمى ايديولوجيا للفكر الصهيونى، وإنما كان الدافع الكبير يتمثل فى ولعه الثقافى باللغة العبرية.

 

وأكد شولمان فى هذا الطرح أن "إسرائيل الآن باتت أسوأ كثيرا من إسرائيل التى جاء اليها منذ نحو 50 عاما"، فمع أنها لم تكن أيامئذ "مجتمع اليوتوبيا " أو بريئة من الكراهية غير أن كل ذلك لا يقارن بالمشهد الحالى فى إسرائيل، حيث استفحلت الكراهية وتفشت العنصرية وتكاثرت تجلياتها المريرة فى المجال العام وعبر وسائل الإعلام.

 

وأشار إلى أن صورة الجيش الإسرائيلى تغيرت بدورها كثيرا عبر هذه السنوات التى عاشها فى إسرائيل، موضحا أن صورة هذا الجيش فى الأذهان هى "صورة جيش الاحتلال الذى يسعى لتكريس اغتصاب الأراضى المحتلة منذ عام 1967.

 

وتابع دافيد شولمان يقول إن هذه الصورة تبدت فى عدة كتب جديدة صدرت بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب الخامس من يونيو عام 1967، وهى حرب رأى أنها "لا تدعو فى الحقيقة الاسرائيليين للاحتفال بذكراها بقدر ماتدعوهم للحزن والحداد" لأنها أفضت لمتغيرات ألحقت أضرارا جوهرية بالمجتمع الإسرائيلى الذى لم يعد يؤمن سوى بلغة القوة.

 

والباعث على التأمل فى هذا السياق كما يقول دافيد شولمان أن الكاتب والمحلل الأمريكى المتخصص فى قضايا الشرق الأوسط ناثان ثرال دعا فى كتاب جديد صدر بعنوان :"اللغة الوحيدة التى يفهمونها" الى ضرورة تبنى توجه يرغم إسرائيل ولو بصورة قسرية على حل النزاع مع الفلسطينيين".

 

فالاستنتاج الذى خلص إليه صاحب هذا الكتاب الجديد هو أن أساليب الولايات المتحدة فى استرضاء إسرائيل والتى تتضمن الدعم المالى الكبير إلى جانب المساعدات العسكرية الهائلة لن تجدى فى تغيير الذهنية الإسرائيلية التى تؤمن بأن "أى تضحيات ضرورية من اجل السلام ستكون أسوأ بكثير من العمل على استمرارية الوضع الراهن".

 

فالذهنية السائدة فى إسرائيل اليوم كما يوضح هذا الكتاب الجديد لا تريد فى الواقع التوصل لأى اتفاق للسلام لأن تكاليف مثل هذا الاتفاق والتى تتضمن التخلى عن أراض محتلة هى فى المنظور الإسرائيلى أفدح بكثير من تكاليف استمرار الوضع الراهن التى تعد "تكاليف يمكن تحملها.

 

وبوضوح يقول ناثان ثرال فى كتابه الجديد إن "أى استراتيجية تقوم على افتراض أن إسرائيل تتصرف بصورة منطقية لن يكتب لها النجاح"، فيما يؤكد أن التوجه الإسرائيلى لاستلهام نظام الحكم العنصرى البائد فى جنوب أفريقيا وإقامة "دولة أبارتيد تحكم الفلسطينيين" إنما يقوض تماما مصداقية أى حديث حول "الديمقراطية الاسرائيلية".

 

ويعود الكاتب والأكاديمى دافيد شولمان لافتا إلى أن إسرائيل التى لا تريد فى الحقيقة أى اتفاق للسلام "هى ذاتها التى تلقى باللائمة على الفلسطينيين فى استمرار حالة الجمود"، بينما تمضى وسائل الاعلام الاسرائيلية فى الترويج لقصص أقرب للخرافات "حول الكراهية المطلقة التى يكنها الفلسطينيون للإسرائيليين".

 

ومثل هذه الخرافات المروجة للكراهية تتجلى ثقافيا فى كتب كالكتاب الذى صدر عن جامعة تل أبيب بعنوان: "بحثا عن وطن فلسطينى حديث" لماتى شتاينبيرج، وهو مستشار سابق لجهاز الأمن الداخلى المعروف باسم "شين بيت" كما عمل كمستشار امنى لعدة رؤساء حكومات فى إسرائيل.

 

وماتى شتاينبيرج يسعى فى كتابه هذا للترويج لمغالطات تاريخية مثل رغبة الفلسطينيين فى إبادة اليهود وتدمير دولتهم فى إسرائيل، وبالتالى فهو يكرس "للاتجاه المضاد للمنطق برفضه أى اتفاق للسلام"، فيما يرى دافيد شولمان أن الحل يكمن فى تبنى ادارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لفكرة ناثان ثرال بشأن "التوصل لاتفاق سلام عبر ارغام اسرائيل على قبوله" من أجل مستقبل أفضل للجميع فى المنطقة.

 

ولا ريب أن للقدس رمزيتها المهمة فى سياق التراث المشترك "لأبناء إبراهيم" بقدر ما تشكل الممارسات الاستفزازية الإسرائيلية تحديا خطيرا لهذه الرمزية ودلالات التراث المشترك وتصب فى مربع تحفيز ذهنية التطرف والعنف ومنح ذرائع للإرهاب.

 

وما بين اقتحامات مستوطنين احتلاليين واغلاق للمسجد الأقصى ومنع المصلين من دخوله مؤخرا، بدا واضحا لكل ذى عينين أن الموجة الجديدة والخطيرة من الهجمات على المسجد الأقصى تستهدف تفريغ المسجد من المسلمين بالتوازى مع مخطط تفريغ القدس من الفلسطينيين، وهو مخطط الاغتصاب الاستيطانى الذى التهم مايزيد على الـ 70 كيلو مترا فى اطار تغيير الحقائق على الأرض كخاصية أساسية من خصائص العقل الاسرائيلي.

 

ومن الواضح أيضا أن العناصر المتطرفة فى الحكومة الإسرائيلية الحالية تستخدم المستوطنين فى القدس الشرقية الذين وصل عددهم إلى نحو 180 ألف مستوطن لتغيير الواقع على الأرض وفرض "ثقافة جديدة" على زهرة المدائن وحاضنة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

 

وبينما يمضى المستوطنون فى ممارسات مناهضة لأى معنى يتصل بقيم الحق والخير والجمال، فثمة حاجة لقراءة ثقافية عربية متعمقة فى دلالات تصاعد الثقافة الصهيونية المتعصبة، فيما توفر هذه الثقافة العدوانية حاضنة لتنامى التطرف فى المنطقة ككل وتمنح ذرائع لجماعات الإرهاب التى تهدد الأمن القومى العربي.

 

وهذه الثقافة المتطرفة تدفع فى اتجاه إعلان إسرائيل كدولة لليهود وحدهم وإقصاء أى مكون عربى من هوية هذه الدولة باعتبارها "الدولة القومية للشعب اليهودى” وتجسد القيم والمعتقدات اليهودية وبما يتضمنه ذلك من "فرض للرؤية اليهودية لتاريخ المنطقة.

 

وإذا كان الشاعر السورى الأصل على احمد سعيد الشهير بأدونيس قد اعتبر القدس "أرض المأساة والتاريخ الملتبس والكلمة"، ساعيا فى عمله الشعرى "كونشيرتو القدس" إلى مزج الثقافى بالرؤيوى وخلط الإبداعى بالمعرفى، فإن القدس تبقى دوما موضع إبداعات ومحفزا لإنجازات ثقافية فى الشرق والغرب.

 

وفى كتاب "المسجد مرآة الإسلام" – يمعن المفكر الفرنسى الراحل روجيه جارودى النظر فى قبة الصخرة للوقوف على المعانى الداخلية والروحية، معتبرا أن هذه القبة تحمل بذور الفكرة الرئيسة للفن الاسلامى الذى يعبر عن التصور الاسلامى للوجود.

 

ولا يمكن أن يفسر هذا الفن إلا انطلاقا من متطلبات هذا التصور وقبة الصخرة أول مثال باهر له، كما يقول روجيه جارودى معيدا للأذهان ان الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان هو الذى أمر ببناء أول أثر إسلامى رائع، هو قبة الصخرة، التى تم بناؤها عام 687 بعد نصف قرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

فالموضع الذى بنى عليه المسجد وبناؤه وأبعاده ونسبه والأشكال التى ينطوى عليها والألوان التى تبعث فيه الحياة ومظهره الخارجى وسيمفونية فضائه الداخلى كلها ناتجة عن العقيدة التى أوحت ببنائها، "فاذا به شكل جديد للجمال ظل يوجه العمارة والفن الإسلاميين والإبداع الفنى فى ثلاث قارات طوال ألف عام".

 

ويمضى جارودى فى تأملاته ليقول: قد يسهل علينا أن نبدأ من الخارج فنبحث عن الأصول البيزنطية والفارسية أو الهيلينية والرومانية لهذا العنصر او ذلك التكنيك فى العمارة أو لهذه الوحدة الزخرفية او تلك لو لهذا التركيب المنسجم المحسوب أو ذاك بيد أن هذا المنهج فى البحث ضرب من العبث.

 

فالمؤرخون وعلماء الآثار ونقاد الفن ومهندسو العمارة كثيرا ما قاموا بهذا العمل التحليلى المفيد بلا شك لكن التوقف عند هذا التحليل - كما يوضح جارودى- من غير بدء من الداخل أى من الدفعة المركزية التى انطلقت منها العملية كلها يعنى إغفال شىء جوهرى.

 

هذا الشىء الجوهرى هو المبدأ الذى ينظم المجموعة ويغير ملامح ما يقتبس ويمنحه حياة جديدة فى مجموعة لم تر النور بعد ويعبر عن عقيدة واحدة من خلال اختلاف الثقافات فيما اضاف جارودى فى هذا الكتاب ان الشكل الخارجى للمبنى يعبر عن الرسالة الجوهرية لهذه العقيدة.

 

وفى "كونشيرتو القدس" ينقل ادونيس عن ابن عباس قوله: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقاع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس" فيما مضى الشاعر متجولا بين تضاريس الجغرافيا الثقافية والروحية لزهرة المدائن التى جمعت ما بين المسجد الأقصى وقبة الصخرة وطريق الآلام وعين سلوان.

 

وإذا كان هناك من يرى استحالة حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطينى وقضية بحجم وخطورة قضية القدس إلا فى إطار دولى ملزم فإن الثقافة العربية تكون بحاجة لتفكير مبدع للتعامل مع هذه القضية على مستوى العالم والاهتمام بكل ما يكتب بلغات أجنبية عن زهرة المدائن.

 

وفى هذا السياق أيضا ثمة حاجة ثقافية فلسطينية وعربية لملاحظة ظواهر داخل المجتمع الإسرائيلى قد تساعد فى تفكيك ثقافة التطرف الإسرائيلية بقدر خطورتها على المنطقة والعالم ككل، ومن بين هذه الظواهر ما يعرف بظاهرة المؤرخين اليهود الجدد.

 

وهذه الظاهرة التى تستنكرها الصهيونية المتشددة تعيد قراءة التاريخ بصورة أكثر انصافا عبر مثقفين إسرائيليين مثل الأكاديمى ايلان بابيه صاحب كتاب "الفلسطينيون المنسيون" والذى يجهر بحق العودة للفلسطينيين فضلا عن حقهم المشروع فى المقاومة ما دامت أراضيهم محتلة.

 

ويعتبر مثقفون يهود عن حق أن الصهيونية المتشددة كأيديولوجية قومية استيطانية منغلقة تهدد الاستنارة وتخاصم الليبرالية بمعناها الحقيقى كما أنها لا يمكن أن تنتصر للعقل وهى تعلى من أفكار التفوق العرقى وفلسفات القوة الغاشمة.

 

ويبدو التاريخ ميدانا للمواجهة بين ظاهرة المؤرخين اليهود الجدد والصهيونية المتشددة فى نسختها الجديدة التى تفرض حضورها الأيديولوجى فى مناهج التعليم داخل إسرائيل لتنكر تماما أى وجود تاريخى وحقيقى للشعب الفلسطيني.

 

وفى المقابل، فإن ظاهرة المؤرخين الجدد التى تتحول إلى تيار ثقافى يضم أسماء عديدة لمثقفين فى اسرائيل مثل ميشيل مزراحى وثيودور كاتز وبينى موريس وشلومو ساند لها تجلياتها فى الطروحات التاريخية والابداعات الشعرية والروائية وكلها مضادة للصهيونية المتشددة وداعية "لحل انسانى ومنصف للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني".

 

وإن كان الحق فى القدس قد سلب من أصحاب الحق، فإنهم للمفارقة كانوا هم الذين أتاحوا حرية الزيارة وحقوق العبادة للجميع دون تفرقة أو تمييز بعيدا عن الاستئثار أو اضطهاد غير المسلمين.. وسنبقى فى "انتظار الحق الذى لم يخن الحق" على حد تعبير الشاعر السودانى الراحل محمد الفيتورى!.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة