منازل قديمة أوروبية الطراز، وضباب يسكن الشوارع الجانبية التى لا تخلو من مشردين لا منازل لهم، وسط هذه الأجواء عاشت قرية مولنبيك، أحد أبرز قرى العاصمة البلجيكية بروكسل التى تستضيف مقر الاتحاد الأوروبى، سنوات طويلة قبل أن تطأ أقدام دعاة جماعة الإخوان ومشايخ السلفية الجهادية المساجد والجمعيات الخيرية التى وجدت عبر قنوات اتصال سرية وعلنية مصادر لا تنقطع من التمويل القادم من إمارة قطر الراعى الأول للإرهاب.
منذ تسعينيات القرن الماضى، وصولا إلى ظهور تنظيم داعش، مرت مولنبيك بمراحل عدة، وخلال السنوات القليلة الماضية ورد ذكرها جليا واضحا فى كافة العمليات الإرهابية التى ضربت قلب عواصم القارة العجوز، فمن مساجدها وجمعياتها المشبوهة التى تتستر خلف رداء العمل الخيرى خرج من نفذوا أعمال دهس وتفجير وترويع لتصبح تلك القرية الصغيرة محط أنظار الكثير من دوائر الأمن والاستخبارات على المستويين الأوروبى والعالمى، ومحل اهتمام الصحفى المغربى نور الدين الفريضى الذى وثق فى كتاب جديد بعنوان "الرقة ـ مولنبيك" كيف تحولت بلجيكا إلى قلعة خفية لذئاب داعش المنفردة.
واستعرض تقرير لقناة "بلجيك 24" مقتطفات من الكتاب الصادر حديثا، مشيرا إلى أن مدينة الرقة التى اتخذها تنظيم داعش الإرهابى معقلا له داخل سوريا، تجمعها بـ"مولنبيك" خيوطا متشابكة، فالأولى مدينة سورية صغيرة أصبحت عاصمة مزعومة لداعش، أما الثانية فبلدية من أكبر بلديات العاصمة البلجيكية بروكسل، وقد تبين حسب مراقبين، أنها و"منذ عقود أهم مصانع الإرهاب والتطرف فى أوروبا"، وإن لم تكن الوحيدة.
وبحسب مراقبون، تمكن مشايخ ودعاة منتسبين لجماعة الإخوان والسلفية الجهادية من التسلل إلى أحياء مولنبيك على مدار العقود القليلة الماضية، وكان لهم أثر بالغ فى استقطاب الشباب الأوروبى المسلم، والدفع بهم إلى ميادين القتال فى سوريا والعراق على مدار السنوات الخمس الخيرة.
ووفقا للقناة البلجيكية ذاتها فأن الكتاب يأخذ القارئ فى رحلة تبدأ فى مولنبيك وتنتهى فيها، فى محاولة لمعرفة كيف تغير وجه هذه الضاحية على مدة العقود الأخيرة وما هى العوامل التى أدت إلى وجود "خلايا إرهابية" فى داخلها، وكيف أصبحت "صلة الوصل" بين عدة بيئات إرهابية فى أوروبا، ارتبطت كلها بعلاقة هيكلية مع الرقة.
ومن خلال صفحات الكتاب، يدون الفريضى تجربته الغنية ليس فقط كإعلامى غطى أحداث تفجيرات بروكسل فى مارس 2016، وما تلاها، بل كباحث حاول معرفة خلفيات الأحداث وتحليل بعض أسبابها وربما الاقتراب من تحديد الجهات المسئولة.
ويلقى الكتاب المزيد من الضوء على ظاهرة "المقاتلين الأجانب" فى صفوف داعش، والتى عرفت موجات سابقة على مدى القرن العشرين، حتى ولم تكن تحظ فى ذلك الوقت، بهذا الكم من الاهتمام الإعلامى.
وما تم التركيز عليه فى الكتاب أيضا، سواء عبر المادة الإعلامية والتحقيق والتحليل، وبعض السرد القصصى المستقى مباشرة من الواقع، هو عنصر الشباب المهاجر الذى أفلت فى رعاية الأسرة والمجتمع ليتحول من "مجرم صغير إلى إرهابى خطير".
أما ما يميز العمل، هو عندما تحدث إلى أحد العائدين من سوريا، أو إلى أمهات بعض الإرهابيين الذين قتلوا فى أماكن الصراعات، فهو يدفع القارئ إلى التفكير وطرح سؤال لا تزال السلطات البلجيكية والأوروبية ترفض حتى التلميح إليه ومفاده: "هل يمكن اعتبار هؤلاء من الضحايا أيضا؟".
وحول الكتاب، يؤكد نور الدين الفريضى لوكالة (آكى) الإيطالية للأنباء، أن التساؤلات الكثيرة التى أثارتها الاعتداءات وامتداد خيوط الشبكة الإرهابية والأسباب التى جعلت أناسا لا يمتون للشرق الأوسط بصلة يسافرون للتدرب فى أماكن الصراع ويعودون محملين بالرغبة والتصميم على إيذاء مجتمع احتضن أهلهم ومنحهم فرصة العمل والمساواة مع المواطنين الأصليين دفعته إلى الشروع بهذا العمل.
واستطرد قائلا، "إذا فهم القارئ مسببات الأزمة ومن هؤلاء، والتداعيات التى تركتها الاعتداءات الإرهابية على المجتمعات الغربية، أكون قد وفقت فى النص".
كما تحدث الفريضى عن الصعوبات التى واجهها أثناء تردده على ضاحية مولنبيك، والجهد الذى بذله لإقامة علاقة ثقة مع أهلها من مسنين وشباب ومثقفين ومتقاعدين ومسئولين محليين من سكان أصليين أو مهاجرين.
ولا يخفى الكاتب قناعته بأن مشكلة مولنبيك وهى ليست نموذجا فريدا فى أوروبا لم تنته بعد، "رغم أن السلطات قامت بما يلزم، وفككت الشبكة الإرهابية واعتقلت كل من له صلة بالهجمات، إلا مولنبيك وغيرها من الضواحى الشعبية الأوروبية لا تزال تعج بكثير من الشباب الذين دخلوا عالم الإنحراف وباتوا جاهزين للتحول من مجرمين صغار إلى إرهابيين خطيرين".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة