كان 1 مايو عام 2016، يوما غير عاديا بالنسبة لإيران، حيث بدأ أنصار التيار الصدرى حراكا جديدا ودعا لتأسيس عراق جديد وإصلاح العملية السياسية، وفى ساحة الاحتفالات فى المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية بغداد، علت الهتافات من تحت قوس النصر بـ "إيران برا برا ..بغداد تبقى حرة" و "يا قاسم سليمانى، هذا الصدر ربانى".
وقعت هذه الهتافات المناهضة لنفوذ طهران فى العراق كالصاعقة على مسامع الدوائر السياسية ومراكز صنع القرار، ولم تمر 24 ساعة إذ وردت بإيقاف الرحلات إلى العاصمة العراقية بغداد، على نحو ما أعلن رئيس منظمة الحج والزيارة الإيرانية سعيد أوحدي، عن إلغاء الرحلات الى بغداد، بذريعة تفاقم الأوضاع الأمنية فى العاصمة العراقية.
هتافات ضد إيران فى العراق
جددت هذه الواقعة شكوكا قديمة لدى طهران، إذ سبقها معلومات تناثرت فى أبريل من العام نفسه حول زيارة قام بها الصدر لبيروت، ألتقى خلالها وزير الدولة لشؤون الخليج العربى ثامر السبهان، وما عزز تلك الشكوك تدوينة السبهان على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك فى 22 أبريل، التى قال فيها: "قلتها سابقا وأقولها الآن أن السيد مقتدى الصدر هو الرجل الأول فى حل الأزمات والمحافظة على وحدة الصف العراقى".
المرشد الأعلى
الصدر انشق عن عباءة المرشد
طهران لم تغفل الصدر، فكانت تراقب مواقفه وتحركات الشاب الذى دعمته ماليا على مدار السنوات الماضية بملايين الدولار، ولوجيستيا عبر تدريب مليشياه وإرسال الأسلحة والعتاد له لمقاومة المحتل الأمريكى، وكان يصفه البعض أنه أحد أقطاب النفوذ الإيرانى بالعراق وشاب خامنئى المدلل الذى واصل دراسته فى حوزة قم الشيعية وطهران على مدار 4 سنوات منذ 2006، إلا أن الأمر اختلف بعد عام 2008 عندما فضلت طهران مساندة رئيس الوزراء المالكى فى صراعه مع الصدر وهو ما أدى إلى توتر فى علاقته مع طهران، إلا أن السنوات الأخيرة رأت الأخيرة أن الشاب نضج وصار رجلا بات يشكل خطرا على مشروعها بالعراق بعد أن أخذ يبتعد عنها وهو ما تجلى فى تصريحاته عام 2008 ، حيث ثار غضب الدوائر السياسية فى إيران ومراكز صنع القرار من الصدر وعنفته الحلقة القريبة من مرشدها على خامنئى، بعد تصريحات له فى مقابلة مع قناة الجزيرة، قال فيها "نصحت خامنئى أن ينهى تدخله العسكرى و السياسى فى العراق، فسياسته لم تنجح فى هذا البلد".
إذن جاء التحول فى الموقف الصدرى تدريجيا منذ سنوات، لكن مؤخرا كسر زعيم التيار الصدرى صمته، بشكل صريح مايو الماضى وقال "على الحكومة الإيرانية إلى التخلى عن المهاترات السياسية والطائفية والانفتاح على دول المنطقة، وأضاف"إن الشعب الإيرانى بحاجة إلى نظرة أبوية لكى يحصل على مقومات العيش الرغد التى حرم منها بسبب الحصار الدولى المفروض عليه".
تصريحاته تجاه طهران لم تتوقف إلى هذا الحد، بل شدد الزعيم الشيعى من لهجة خطابه تجاه حلفاء ايران، وكان واضح من دعوته للرئيس بشار الأسد فى 8 أبريل الماضى بالتنحى عن السلطة فى سوريا، ومنح الشعب السورى حق تقرير مصيره لتجنب ويلات الحروب وسيطرة الإرهابيين.
الصدر مع ولى العهد الصعودى
وجاءت زيارة الصدر إلى المملكة العربية السعودية بعد 11 عاما منذ أخر زيارة فى 2006، لتضيف حلقة فى سلسلة ابتعاده عن طهران، وتزيد من شكوكها تجاهه، وقام خلال الزيارة التى استغرفت 72 ساعة بعدة لقاءات عقدت مع مسئولين سعوديين، أبرزهم ولى العهد السعودى محمد بن سلمان، والسفير السابق لدى العراق ثامر السبهان.
وعقب عودته من المملكة، طالب الصدر رئيس الوزراء العراقى العبادى، "بدمج العناصر المنضبطة من الحشد الشعبى" المدعوم من طهران فى القوات المسلحة وسحب السلاح من فصائله وحصره بيد الدولة، وشدد على "إبعاد كل من له باع طائفى مقيت أو ممن باع ثلثى العراق وما شابه ذلك"، تلميحات جعلت القيادة الإيرانية ترتاب.
الصدر وحفيد الخمينى سيد حسن خمينى
كانت تلك الزيارة كالقشة التى قسمت ظهر البعير، حيث سبقتها زيارة رئيس الوزراء العبادى إلى السعودية ولقاءه بالملك سلمان وقيادات المملكة، ورغم النبرة الهادئة التى اعتاد المسئولين الإيرانيين عليها فى مثل هذه المواقف خلال توضيح رؤيتهم للزيارة، إلا أنها كانت تخفى وارءها بركان غضب ثائر خلف الغرف المغلقة، بدأت حممه تظهر فى اعلام طهران الذى نعت الصدر "بالخائن" وقالت أنه تخلى عن إيران بالرغم مما قدمته له من دعم وخدمات.
وأسهب إعلام طهران لأيام بعد انتهاء الزيارة وحتى كتابة هذه السطور فى توجيه انتقادات لاذعة للصدر تبرز مخاوف طهران من تحركات غريمها السعودى فى العراق، وكتبت صحيفة "سياست روز"، الصدر فى المنزلق السعودى، وقالت أن المتابع لتصريحات الصدر التى تتناغم مع رؤى بن سلمان، و وقالت صحيفة كيهان المتشددة أن الزيارة تشير إلى محاولات السعودية لخلق فجوة بين شيعة العراق، على حد زعمها، وادعت أن المملكة ناقشت بشكل صريح خلال اللقاءات المختلفة التى جمعتها بالمسؤولين العراقيين، مشاركة المملكة الاقتصادية فى حل مشكلات العراق شريطة فصله عن إيران لقبولها فى محيطه العربى.
الزعيم الصدرى
وإلى هنا يبرز السؤال الأهم حول سر مخاوف القيادة الإيرانية من زيارة مقتدى الصدر للسعودية مع كل النفوذ الذى تتمتع به طهران داخل العراق وتكمن للأسباب التالية:
أولا: تقليص ومواجهة نفوذ طهران المتزايد فى العراق، وإبعادها عن التدخل فى الشأن العراقى، وانتزاعها من الحضن الإيرانى، فعقب تحرير الموصل ودحر داعش، برز دور الحشد المدعومة منها والذى نفذ عمليات خطط لها مستشاريها المتواجدين بالعراق تحت إمرة قاسم سليمانى قائد فيلق القدس، وشعرت طهران بسعادة غامرة وأصبح لدى قادتها قناعة بأنهم قدموا دماء كثيرة (قتلاها فى العراق) وضحت بالكثير ليحين الوقت الأن لجمع الغنائم، ولا ترضى أبدا بلاعب أخر سواها فى الميدان العراقى يقتسم معها الكعكة ويثير القلاقل على الحدود المتاخمة لها مع العراق الممتدة لـ 1458 كلم.
ثانيا: تخشى طهران خروج العراق من فلك محور المقاومة، وأن تفقد تدريجيا وصيتها على هذا البلد الذى يشكل الشيعة الاثنى عشرية غالبيته والموجود ضمن الهلال الشيعى الذى تحلم به، وبالتالى تفقد هيمنتها على مراكز صنع القرار فيها، فطهران التى تتفاخر بالعراق كونها واحدة من بين العواصم الأربع التى تسيطر عليها لا تحبذ أبدا خروجها من محورها الشيعى، ولجوئها للمحور السنى بقيادة المملكة العربية السعودية.
ثالثا: اجهاض أجندة طهران لتأسيس "جيش شيعى"، حيث تخشى طهران من إجهاض مشروعها الذى أفصحت عنه على لسان الجنرال الإيرانى، محمد على فلكى، قائد فيلق "سيد الشهداء" فى اغسطس العام الماضى كشف فيه إن مليشيات الحشد، ستكون نواة لتأسيس "الجيش الشيعى"، ومن منطلق هذه الاجندة المشبوهة، تحرص طهران على تهيئة الأجواء فى العراق لخروج أول جيش عقائدى، لكن دخول لاعب أخر سيجهض مخططاتها، خاصة وأن تصريحات الصدر التى اعقبت الزيارة كانت تمس هذا الفصيل الهام بالنسبة لطهران.
رابعا: تتخوف طهران من دخول القوى السنية فى العراق وتغيير التركيبة المذهبية السكانية فيها، حيث عملت على مدار سنوات لتشكيل الخريطة السكانية فى هذا البلد على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، عبر ذراعها "الحشد الشعب"ى الذى طالته اتهامات كبيرة بارتكاب العديد من المجازر بحق المدنيين السنة العراقيين بحسب تقارير اعلامية، وقام بتهجيرهم ونفذ عمليات ابادة لهذا المكون العراقى فى المناطق التى جرت استعادتها من "داعش".