برحيل الدكتور رفعت السعيد الذى عن عمر يناهز 85 عاما يكون اليسار الثقافى المصرى والعربى قد فقد علما كبيرا وأحد أهم المؤرخين لحركات اليسار العربى بقدر ماكان وسيبقى أحد الفرسان الكبار للوطنية المصرية الجامعة بين كل المصريين.
والدكتور رفعت السعيد رئيس المجلس الاستشارى لحزب التجمع ورئيس الحزب السابق هو أحد أقطاب اليسار المصرى وصاحب مواقف مبدئية فى مناهضة الفكر الظلامى كما أنه صاحب كتب ومؤلفات عديدة من بينها: "ثلاثة لبنانيين فى القاهرة" و"تاريخ الحركة الاشتراكية فى مصر" و"الصحافة اليسارية فى مصر" و"مجرد ذكريات" وهو كتاب يدخل فى ادب السيرة الذاتية فضلا عن كتابه المهم :"عمائم ليبرالية فى ساحة العقل والحرية".
وللأدب أن يشعر أيضا بالحزن لرحيل هذا المثقف المصرى الكبير الذى تشهد أعماله الروائية الأدبية:"السكن فى الأدوار العليا" و"البصقة" و"رمال" على تمتعه بنفس روائى مميز وقدرة بارعة على الابتكار فى الحكى غير أن عالم السياسة لم يمنحه متسعا من الوقت لمزيد من الابداعات الأدبية أو ماكان يسميها تواضعا "بالحكايات".
والدكتور رفعت السعيد الذى وورى أمس "الجمعة" ثرى مصر التى أحبها دوما حظت روايته "رمال" بترجمة لليونانية وامست ضمن المساقات الأكاديمية لطلاب قسم الدراسات الشرقية فى جامعة اثينا باعتبارها عملا ادبيا يعبر عن التحولات الاجتماعية فى مصر.
ويبدو أن النقاد عليهم الآن دراسة البعد الأدبى فى هذا المثقف اليسارى المصرى الثرى التكوين والذى انحاز دوما للعدالة الاجتماعية وكل مايعزز نسيج المجتمع المصرى فيما تحمل رواياته صيغا شعرية لافتة رغم سردها الواقعى بصور متعددة لرجل الشارع أو المواطن فى مصر.
وإذا كان الدكتور رفعت السعيد قد تناول فى كتابه "تآملات فى الناصرية" الذى صدر فى مطلع الألفية الثانية طرفا من التجربة الناصرية وسنوات مابعد ثورة 23 يوليو 1952 ومرحلة الستينيات بالشرح والتحليل فإن تساؤلات وتآملات هذا المثقف اليسارى والوطنى المصرى هى جزء من حركة فكرية عالمية تمتد فى الواقع بمراجعاتها لتشمل زمن اليسار ككل فى القرن العشرين ومسيرته ومستقبله فى القرن الحالي.
واسهامات رفعت السعيد تشكل اضافة ثقافية مصرية مهمة وسط التساؤلات عن مآلات اليسار الثقافى وما إذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لأحزاب وفصائل انتمت لليسار أو كانت قريبة ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية لهذه الأحزاب.
ولعل هذه الاسهامات الثقافية لفارس اليسار المصرى رفعت السعيد تقدم اجابات حول التجربة الناصرية فى مصر ومدى الخسارة الفادحة التى لحقت بهذه التجربة فضلا عن منجزها الثقافى جراء غياب الحريات مع أن التجربة الناصرية الهمت بالفعل مثقفين ومناضلين حتى فى أمريكا اللاتينية ومازالت العلاقة بين تشى جيفارا وجمال عبد الناصر ماثلة فى الأذهان فيما كان الرئيس الفنزويلى الراحل هوجو تشافيز يصف نفسه بأنه "ناصرى".
وإذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية فان لحزب البعث الذى يدخل ايضا ضمن تلاوين اليسار العربى سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين غير أن أية انجازات اجتماعية من هذا النوع تبددت اوشوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات.
ومع سقوط الكثير من الأحلام القديمة فان الحاجة ماسة لمراجعة ثقافية عميقة وجديدة للمفاهيم الفكرية والسياسية لليسار فيما تستمر الأزمة العالمية لليسار حتى فى الديمقراطيات الغربية بينما تقدم رؤى واسهامات مثقف مصرى مثل الراحل العظيم الدكتور رفعت السعيد اقتراحات مفيدة لمواجهة هذه الأزمة.
ويرحل رفعت السعيد بجسده فيما تبقى أفكاره واسهاماته الثقافية حاضرة فى وقت يجتهد فيه مثقفون كبار فى الغرب فى محاولات للاجابة عنه بمناسبة حلول قرن كامل على الثورة الروسية وظهور ماعرف "بالاتحاد السوفييتى" حتى دخل ذمة التاريخ فى مطلع تسعينيات القرن العشرين.
و مازالت سنوات ستينيات القرن العشرين التى كانت موضع اهتمام فى كتابات ودراسات وتآملات الدكتور رفعت السعيد والتى توهج فيها اليسار تشكل بؤرة ثقافية لكتب جديدة مثل الكتاب الذى صدر بعنوان "اخى تشي" بقلم خوان مارتن جيفارا الشقيق الأصغر لأيقونة اليسار العالمى فى القرن العشرين تشى جيفارا.
وفى سياق تعليقه على هذا الكتاب والرحلة الصعبة لمارتن جيفارا بحثا عن رفات شقيقه بعد نحو ثلث قرن على مقتل تشى جيفارا فى أحراش بوليفيا، قال الكاتب اللبنانى الكبير سمير عطا الله :"تحولت الرحلة إلى ما يشبه العمل الروائى المثير والمحزن".
ورأى عطا الله فى زاويته بجريدة الشرق الأوسط التى تصدر بالعربية من لندن أن التساؤلات والشائعات المذهلة حول حقيقة مصرع هذا الثائر الأرجنتينى الأصل ومن بينها أن الاتحاد السوفييتى السابق تواطأ مع الأمريكيين ضده "تضع الكتاب فى اطار الرواية لا البحث وكل الأقوال تزيد فى أن جيفارا كان أسطورة بقدر ماكان حقيقة".
ولئن تساءل فارس من فرسان اليسار المصرى مثل الدكتور رفعت السعيد ذات يوم بصورة لاتخلو من مرارة عن مآلات اليسار بعد التضحيات الكبيرة والجسيمة التى كابدها من انتموا لهذا التيار وهو احد من كابدوا هذه التضحيات فمن اهم المثقفين الذين يحاولون الآن الاجابة على هذا السؤال الكبير والمتعلق بأحداث خطيرة وأيام فاصلة فى التاريخ الإنسانى المثقف البريطانى الجنسية والباكستانى الأصل طارق على فيما تتجلى جهوده الثقافية فى هذا السياق سواء عبر كتاب جديد أو طروحات ومقالات ذات صبغة ثقافية عميقة فى صحف غربية كبرى.
وفى كتابه الجديد الصادر بالانجليزية بعنوان :"معضلات لينين :الارهاب، الحرب، الإمبراطورية، الحب والتمرد "القرن الأحمر" يثير طارق على جدلا واسع النطاق فى الصحافة الغربية والمنابر الثقافية عبر اوروبا والولايات المتحدة.
وكذلك يبرز اسم طارق على فى صحيفة نيويورك تايمز التى شرعت فى نشر سلسلة طروحات بعنوان: "القرن الأحمر" حول تراث وتاريخ الشيوعية بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الروسية التى ستحل فى شهر أكتوبر المقبل.
وبين المذابح والحرب الأهلية التى أعقبت الثورة الروسية منذ نحو قرن كامل يحاول المفكر الباكستانى الأصل طارق على استكشاف التاريخ من جديد أو القيام بزيارات جديدة لأحداث فاصلة فى رحلة المسير والمصير للأمم والشعوب وهى قضية حاضرة بقوة فى كتب المثقف اليسارى المصرى رفعت السعيد فى سياق جهده المعرفى لإعادة بناء التاريخ وتفسيره.
وإذا كان اليسار أعطى فى الحقيقة أسماء فكرية تألقت خلال القرن الماضى مثل المفكرين والكاتبين الفرنسيين جان بول سارتر وريجيس دوبريه والمؤرخ البريطانى اريك هوبسباوم والشاعر التركى الكبير ناظم حكمت فانه منح ايضا لمصر والعالم العربى مثقفا كبيرا ومتعدد الاهتمامات هو الدكتور رفعت السعيد..فتحية لروح مثقف مصرى كبير كان يسعى دوما للتعرف على حكمة البسطاء فى الشارع وعدم الارتكان لدموع الذكريات.