فى 1998 وعلى رصيف ميناء العين السخنة، أنقذ القدر المصريين من كارثة محققة، كان من الممكن أن تضاعف حالات الإصابة بأمراض السرطان فى مصر لعشرات السنوات، الأمر تمثل فى لافتة داخلية نسيها مستورد لـ15 حاويات من مادة اللاندين المسرطن والتى تستخدم كمبيد حشرى، اللافتة الخارجية كان مكتوب عليها "غير مصرح بدخوله البلاد"، واللافتة المنسية اكتشفها أحد المفتشين، وهنا توقفت رحلة اللاندين المسرطن داخل حاوياته على نفس الرصيف لمدة 19 عاما، حتى جاء اليوم لإعلان الاتفاق على التخلص منه فى مؤتمر صحفى اليوم.. فماذا حدث قبل وأثناء هذه الرحلة؟.
كيف جاءت مادة اللاندين المسرطنة إلى موانىء مصر؟
فى عام 1998 وفى عهد وزير الزراعة الأسبق يوسف والى، وصلت باخرة "الميرسك" إلى المنطقة الحرة بميناء بورتوفيق، وعلى متنها 15 حاوية بداخلها مبيدات حشرية.
ومع مراجعة الشحنة رفضت جهات الرقابة دخولها، لأن مادة اللاندين كانت قد تم حظرها دوليًا لأنها مادة مسرطنة، إلا أن الشركة المستوردة استطاعت أن تحصل على شهادة جمركية لتخليص الحاويات، لكن الشركة كانت قد نسيت أن تزيل لافتات داخلية مكتوب عليها غير مصرح بدخول البلاد، ما تسبب فى وقف الشحنة مرة ثانية لفتح تحقيق موسع فى الأمر، وهو ما تأكد معه أن المادة مسرطنة وغير مسموح بدخولها البلاد.
ماذا تم منذ منع دخول الشحنة حتى الآن؟
بعد منع دخول الشحنة وإحالة المتهمين بالشركة إلى المحاكمة، دخلت الحكومة فى أزمة آخرى، وهى كيفية التخلص من هذه المادة المسرطنة التى يبلغ حجمها تقريبًا 240 طنًا، خاصة أن تكلفة دفن تلك المادة مكلف، وأن عمرها أطول من عمر المدفن، ما سيتسبب فى استمرار أضرارها على البيئة، كما أن عروض الحكومة على بعض مصانع الأسمنت ومدفن العلمين لحرقها فشلت تخوفا من الانبعاثات التى قد تنتج عن ذلك.
ومع تتابع 7 رؤساء لهيئة موانئ البحر الأحمر ظلت المشكلة قائمة دون حل، وظلت مناشدات العاملين بالسويس والمدن المجاورة للمسئولين بسرعة التخلص من تلك الحاويات دون إجابة واضحة.
ظل الوضع كما هو حتى تم تشكيل لجنة عام 2012 برئاسة وزير البيئة، وعضوية ممثلين من هيئة الطاقة الذرية، ووزارة النقل، وهيئة الموانئ، والقوات المسلحة، و تم إرسال خطابًا إلى منظمة الفاو، التى أرسلت خبيرًا وأجرت معاينات وتحليلات على الحاويات وطرحت الأمر فى مناقصة عالمية للشركات للتخلص من حوايات اللاندين، والتى قدر تكلفة التخلص منها حوالى مليون دولار، وتستغرق العملية عاما كاملا.
ما هى مادة اللاندين وما أضرارها؟
"اللاندين" مبيد حشرى، تم حظر استخدامه عالميًا عام 1996، أى أن الشحنة التى دخلت مصر جاءت بعد عامين من الحظر، ويعتبر اللاندين من المواد شديدة السمية، والتى تصيب الغدد الصماء بالإنسان، ويؤدى إلى تشوهات خلقية فى المواليد، وتسبب تأثيرات مسرطنة مؤكدة.
ويحتاج التلخص من اللاندين تكلفة عالية حتى يتم بشكل آمن لأن عمر مادة اللاندين 120 عامًا، بينما عمر المدفن 30 عامًا فقط، لذلك المتبع عالميا هو حرقه وليس دفنه.
هل انتهت أزمة اللاندين المسرطن؟
اليوم أعلن وزير البيئة فى مؤتمر صحفى الوصول لاتفاق مع البنك الدولى لتمويل التخلص من الشحنة، وانتهت الوزارة من الإجراءات الخاصة بنقل الشحنة ومخاطبة دول الجوار الذين ستمر عليهم الشحنة خلال رحلة سفرها لدولة فرنسا التى سيتم ترميدها فيها عبر أفران خاصة.
أستاذ بـ"زراعة الإسكندرية": التصرف مع ملف اللاندين تم بطريقة فنية شديدة الحرص
وعلى سياق متصل، قال الدكتور صلاح سليمان أستاذ كيمياء وسمية المبيدات بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية ومستشار مكتبة الاسكندرية، إن شحنة من المبيدات الراكدة فى مصر بميناء "الأدبية"، تعد هى الأكبر فى تاريخ مصر بعد مرور أكثر من 20 عامًا على وجودها على الأراضى المصرية، موضحًا أن التخلص منها خارج مصر باستخدام تقنيات حديثة أكد نجاح أصوات المصلحة الوطنية وأنها تفوقت بجدارة على المصالح الخاصة وهو مؤشر جيد على مستقبل البلاد.
وأضاف سليمان فى تصريحات صحفية له أن التصرف مع ملف الحاويات العشر المحتوية على 220 طنًا من مبيد اللاندين فى ميناء الأدبية بمحافظة السويس، تتم بطريقة فنية شديدة الحرص نظرًا للخطورة، إذا لم يتم إدارة الملف بطريق تضمن التخلص الآمن من الشحنة الراكدة منذ أكثر من 20 عامًا، موضحًا أنه على مدار السنوات الماضية، كانت هناك محاولات كثيرة للتخلص منها داخل مصر رغم خطورة ذلك على الموارد المائية والأرضية على الصحة العامة والبيئة، نظرًا لأن دفن أى كميات من هذا المبيد أو غيره من المواد الواردة بجداول هذه الاتفاقية الدولية ممنوع منعًا باتا كوسيلة آمنة للتخلص منها وفقًا لهذه الاتفاقية التى حررت على أساس أن مثل هذه المواد تبقى ثابتة ثبات الدهر.
وشدد سليمان على أن الطريق الوحيد للتخلص الآمن من هذه الشحن وغيرها من المواد المشار إليها بالملوثات العضوية الثابتة هو الأكسدة التامة لها فى أفران ذات تكنولوجيا عالية غير متوفرة فى مصر أو فى المنطقة المحيطة بنا ومتوفرة فقط فى عدد قليل من الدول مثل هولندا وبلجيكا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ومن حسن الحظ أن بعض هذه الدول لازالت تسمح للمؤسسات التى تمتلك هذه الأفران أن تستقبل من خارج دولها كميات من تلك المواد للتخلص الآمن منها بمقابل مادى أو بمنح من تلك الدول أو غيرها، وهو ما حدث مع شحنة "اللاندين".
وأوضح أستاذ سمية المبيدات، إنه ليس فى مقدور أحد تحمل خطأ حرق أى كميات مهما صغرت من هذه المادة فى أفران مصانع الأسمنت نظرًا لأن ذلك سيؤدى إلى تحولها إلى نواتج حرق أشد خطرًا بعشرات الآلاف من المرات، وهذه النواتج وببساطة هى مشتقات الدايوكسين والفيوران المكلورة وهى مواد شديدة الخطورة على صحة الإنسان والحيوان والبيئة وتتكون من تعرض مركبات مثل هذا المبيد للحرق، مستشهدا بما حدث فى اليابان عام 1968 عندما قامت إحدى الشركات بإنتاج زيت أرز ملوث اختلط معه أحد هذه المركبات العضوية الثابتة وعند تعريضه إلى درجات حرارة عالية خلال التصنيع او الاستخدام ترتب عليه تحول جزء منه إلى دايوكسينات أدت إلى تسمم أكثر من 14 ألف مواطن، وبدء انتشار أعراض السرطان عليهم وهو المرض المعروف باسم "يوشو".
ولفت "سليمان" إلى أنه لا يمكن التخلص من شحنة اللاندين بالدفن داخل مصر لأن دفن عشرات أو مئات من الأطنان سيترتب عليه مسئولية إجبارية على مصر بالتخلص الآمن لآلاف أو حتى ملايين الأطنان من التربة التى سيختلط بها ويلوثها ويصل إليها فى المدفن وحوله، بل ستكون كارثة حال وصول هذه المادة إلى المياه الجوفية.
وأضاف سليمان أن وزارة الدولة لشئون البيئة مولت مشروعًا أوليًا بمشاركة مسئولين لعدد من وزارات الزراعة واستصلاح الأراضى، والصحة، والسكان والكهرباء، والمالية، والرى، لحصر الملوثات العضوية الثابتة والمبيدات الراكدة الموجودة بمصر والتعرف عليها وكمياتها، وتهيئتها للتخلص الآمن مستقبلا، تنفيذاً لاتفاقية ستوكهولم الدولية.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تبقى لديها فقط 180 كجم من اللاندين، بينما استبيحت مصر بوجود 220 طنًا، وتم التخلص الآمن منها خارج البلاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة