مرت مدينة الموصل عبر عصور التاريخ بمحن وحروب كثيرة، لكن الحرب الأخيرة مثلت خنجرا طعن قلب المدينة وروحها التى لا تزال تقاوم التعصب أيا كان يمثل ما قامت به داعش من تدمير للمسجد النورى فى الموصل رمزية لها مغزى تتجاوز فكرة التدمير بصورة أكثر مما يشاهد الحدث عبر شاشات التلفاز، وإذا ربطنا هذا بتدمير المسجد الأموى فى حلب فسنرى أن هذا تدمير لمعالم المذهب السنى التى صمدت وقاومت تارة الصليبيين وتارة المغول، معالم درس بها صفوة علماء الإسلام وألف فى المسجدين آلاف المصادر المتخصصة فى العلوم الإسلاميه التى تعتبر الوسطية منهج حياة والعقل أداة إدراك وتفكير وتحليل.
فهل كان لدى أطراف الحروب غل تجاه تراث الموصل وحلب، هذا ما يبدو أمام المتخصصين سؤالا محيرا؟
هذا السؤال بات فى حاجةً إلى إجابة اليوم، لذا علينا أن ندرك أن الجميع فى العراق وسوريا من أطراف هذه الحروب أما لا يبالى بهوية حلب أو الموصل فيدمر المعالم الدالة على العمق التراثى لمجرد الانتصار فى الحرب أو أنه يتعمد التدمير لكى تكون لأيديولوجية من دمر المستقبل، ناسيا أن كلا من الموصل وحلب مر عليهما حروب وأعداء كلهم فشلوا فى طمس أو تغيير هوية، أو مذهب سكان المدينتين، كما أن هذا خلق فى النفوس حالة من الرغبة العارمة للتأكيد على أهمية أن يتم استعادة تراث المدينتين سواء على صعيد أبناء الموصل أو حلب، أما على الصعيد الدولى فهناك عدة محاولات بعضها جاد وبعضها هش لا يخرج عن كونه اجتماعات ذات طابع إعلامى.
إننا الآن فى اللجنة الوطنية المصرية للمجلس الدولى للمتاحف نسعى إلى بناء تحالفات دولية لإعادة ترميم وصيانة تراث الموصل بالاشتراك مع جامعة الموصل خاصة خبير التراث الدولى بها الدكتور على الجبورى، والذى يحاول الآن إعادة مشروع إحياء مكتبة أشور بانيبال إلى الحياة، والذى نهبت ودمرت داعش ما تم جمعه لسنوات من كتب لمشروع إحياء هذه المكتبة التاريخية التى تعد واحدة من أقدم مكتبات العالم، حيث عثر بالقرب من الموصل على رقم طينية تعد أقدم فهرس لمكتبة فى العالم وهى محفوظة فى المتحف البريطانى، ويسعى كذلك خبير التراث الإسلامى ابن الموصل الدكتور أدهم حنش إلى بناء جامعة للفنون والعمارة الإسلامية فى الموصل خاصة أن عددا من علماء الآثار الإسلامية فى الموصل بنوا قواعد بيانات وصور لتراثها فى محاولة للمساهمة فى استعادة هذا التراث مثل الدكتور أحمد قاسم جمعة وهو متخصص فى مساجد الموصل وكتاباتها والخطاط الموصلى رعد الحسينى، وهذا يقتضى بناء صدوق ممول دوليا لإنقاذ وترميم تراث المدينتين، وكذلك إعلانهما مدينتين منكوبتين تراثيا من قبل اليونسكو وهذا ما نسعى له حاليا مع المجلس الدولى للمتاحف و اليونسكو.
إن هذا سيتبلور عبر مؤتمر ستنظمه مكتبة الإسكندرية فى شهر ديسمبر ٢٠١٧ تحت عنوان الفن الإسلامى فى مواجهة التطرف، والذى ستشارك فيه منظمات دولية عديدة، يهدف المؤتمر إلى التأكيد على أهمية الفن الإسلامى كفن الأرابيسك والخط العربى والموسيقى والخزف والعمارة والنحت والتذهيب والنسيج وغيرها مما ابتكره الفنانون المسلمون وأبدعوا فيه.
هكذا تحيى هذه المبادرة روح حب الحياة والجمال التى عرف بها المسلمون عبر العصور فالإسلام لم يكن فى يوم من الأيام دين الآخرة فقط، بل كان دينا يحث على الحياة والاستمتاع بالطيبات وحب الجمال، هذه الروح أتت من أن وظيفة الإنسان فى الأرض عمارتها وإحيائها وليس تدمير المساجد والمعالم لأن فى ذلك إهدار لثروات المسلمين، إن تدمير المسجد النورى فى الموصل الذى بناه الملك الشهيد نور الدين محمود الذى قاد المقاومة السنية ضد الصليبين من حلب والموصل يعد جريمة كبيرة فى حق التراث الإنسانى فالمسجد النورى بنى فى العام ١١٧٠ واستمر بناؤه إلى العام ١١٧٢ واشتهر المسجد بمحرابه الذى نقل من المسجد الأموى فى الموصل ومنارته التى عرفت بالحدباء لميل بها ووجود سلمين للصعود لا يلتقيان إلا عند شرفة المؤذن.