فيما تحل اليوم الاثنين الذكرى الـ"16" للهجمات الإرهابية التى عرفت "بأحداث 11 سبتمبر فى نيويورك وواشنطن" يتصاعد اهتمام المثقفين وسعيهم الفكرى لاجتثاث جذور الإرهاب والتطرف فى عالم مازال يبدو حتى الآن بعيدا عن الأمن المنشود منذ هذه الذكرى الأليمة فى التاريخ الإنساني.
وتحل هذه الذكرى فيما تقف مصر على قلب رجل واحد فى موقع متقدم على النسق الأول فى جبهة الحرب على الإرهاب وتواجه بكل الحسم التنظيمات الإرهابية ومن يقف خلفها ويوفر لها ملاذات آمنة ويروج لخطابها الظلامى لدفع المنطقة نحو مستنقع التخلف والفوضى وأعاصير اليأس.
وإذ رأى مثقف مصرى بارز هو الكاتب والمعلق الدكتور أسامة الغزالى حرب أن يوم 11 سبتمبر 2001 هو "اليوم الذى لم يعد العالم بعده مثلما كان من قبله" فقد ذهب إلى أنه رغم مرور 16 عاما على تلك الأحداث المذهلة "لم يكشف أبدا عن كل حقائقها" معيدا للأذهان أنها كانت بداية أحداث كبرى فى العالم مثل الغزو الأمريكى لأفغانستان والعراق.
وثمة اتفاق عام بين المعلقين على أن العالم مازال بعيدا عن الأمن المنشود والآمان المرتجى بعد 16 عاما من ذلك اليوم الأسود فى التاريخ الإنسانى وأن "عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 مازال مخيفا" بينما يتوقع البعض أن يتحول تنظيم إرهابى مثل تنظيم داعش إلى "لعبة الذئاب المنفردة والخلايا النائمة" بعد انحسار وجوده الظلامى على الأرض فى العراق وسوريا.
فبعد 16 عاما على أحداث 11 سبتمبر الأليمة والهجمات التى تعرضت لها نيويورك وواشنطن لتوجع الإنسانية كلها مازال الإرهاب يعربد على امتداد خارطة العالم ليسقط المزيد من الضحايا الأبرياء ويروع الإنسانية كلها ويثير المزيد من الشكوك والمخاوف التى تقوض جسور الحوار بين الثقافات بقدر ما تمنح المزيد من الذرائع لأعداء الحوار ودعاة صراع الحضارات على إيقاعات حشرجات القتلى.
وتنظيم داعش الظلامى الإرهابى بات تحت مجهر المثقفين سواء فى مصر أو العالم العربى ككل وها هو الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة يتناول وضعية هذا التنظيم الدموى بعد الهزائم المتلاحقة التى منى بها فى الأشهر الأخيرة.. مضيفا "وربما جاء اليوم الذى أدركنا فيه حقيقة داعش وكيف تشكلت ومن كان وراؤها وما هى الدول التى قدمت الدعم لهذه الفئة الباغية".
غير أن جويدة يؤكد ضرورة البحث العميق فى ظاهرة التطرف والإرهاب بأبعادها المتعددة.. مشددا على أن هناك "معركة فكرية وثقافية ودينية لا ينبغى التخلى عنها حتى لا يعود المرض ويصبح أكثر شراسة فى سنوات مقبلة".
ونوه الكاتب والشاعر فاروق جويدة فى هذا السياق بقرار الرئيس عبد الفتاح السيسى بإنشاء مجلس قومى لمواجهة الإرهاب والتطرف وهو المجلس الذى سيتحمل "مسؤولية إعداد استراتيجية كاملة لمواجهة الإرهاب على المستوى الأمنى والفكرى والثقافى والاقتصادى ودراسة أسباب الظاهرة وكيف نواجهها".
وأضاف فى طرح بجريدة الأهرام أن هذا المجلس ستكون له أبعاده ونشاطه على المستوى العربى والإسلامى بل والعالمى "لأن القضية الآن أصبحت تمثل تهديدا للعالم كله" فيما شدد على أهمية تناول "الجوانب الفكرية والثقافية فى قضية الإرهاب والتطرف".
وفى كتاب جديد صدر بعنوان :"داعش إلى أين؟" يرى الدكتور فواز جرجس الأستاذ فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية أن هذا التنظيم الإرهابى يتعرض لانحسار فى ظل الهزائم المتوالية التى يتجرعها فى سوريا والعراق منذ العام الماضى غير أن هذا الأستاذ الجامعى المنحدر من أصل لبنانى والذى يشغل أيضا منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط فى جامعة لندن يحذر من أن انحسار داعش حاليا لايعنى استبعاد إمكانية عودته بصورة جديدة وأكثر وحشية وعنفا.
وإذ يركز فواز جرجس على السياقين الاجتماعى والسياسى ضمن جهده المعرفى لفهم حقيقة وطبيعة تنظيم داعش فإنه يوضح أن هذا التنظيم وإن انحدر من تنظيم القاعدة المتهم بمسؤوليته عن أحداث 11 سبتمبر 2001 فإنه فى الواقع ليس مجرد امتداد للقاعدة حيث "يدمج ما بين أبعاد محلية وعالمية".
وفيما يحذر جرجس مما يصفه "بفهم داعش على نحو أسطورى وسطحى ودعائي" فإنه يشير إلى وجود صلة بين ظهور هذا التنظيم الظلامى الإرهابى وسياقات ما عرف "بالربيع العربي" وتحطم مؤسسات الدولة فى بلدان عربية "والصراعات الجيو-سياسية والجيو-طائفية" فى المنطقة العربية.. موضحا أن البيئة المواتية للنمو الداعشى هى "بيئة الاضطراب والعنف والتسلط الطائفي".
أما ليلى صبار الكاتبة الفرنسية المنحدرة من أصل جزائرى فقد سعت باعتبارها أديبة نالت جوائز ثقافية فى فرنسا لمعالجة ظاهرة التطرف عبر رؤية إبداعية فى عمل جديد لمجموعة قصصية قصيرة جاءت بعنوان :"الشرق أحمر" وتدور وقائعها فى بلاد الشام بلغة مكثفة لكنها صادمة بمشاهد مؤلمة لممارسات الإرهاب فى سوريا والعراق وهى مشاهد تتضمن أيضا تدمير لوحات فنية أو ما يمكن وصفه "بالإرهاب الثقافى".
وتحاول صبار فى مجموعتها القصصية الجديدة الإجابة عن أسئلة ملحة فى إشكالية التطرف والإرهاب وتبحث فى دوافع مرتكبى الجرائم الإرهابية النكراء التى لا تمت للدين الحنيف بصلة.. موضحة أن هؤلاء الإرهابيين يعانون من حالة جهل دينى مطبق مع أنهم يرتكبون جرائمهم باسم الدين.
وليلى صبار صاحبة إبداعات بالفرنسية مثل "الملابس الخضراء" و"البيت الأزرق" و"العيون الخضر" عملت فى الاذاعة الثقافية الفرنسية ولها كتب تتناول إشكاليات الهجرة والتكيف الثقافى ومعنية بقضايا الحوار المفترض بين العالم العربى والإسلامى وبين الغرب.
إذ يؤكد الخطاب الرسمى المصرى عبر مضامين متعددة على أن أفكار وممارسات التطرف والإرهاب موجهة فى الحقيقة ضد جوهر الدين الحنيف فإن هذه الظاهرة تفرض قضايا ثقافية بالدرجة الأولى فيما تلح إشكالية "صناعة الصورة الغربية الزائفة للإسلام" وحقيقة التيار الذى يقف خلف صنع هذه الصورة الزائفة مستفيدا بلا ريب من وقائع مثل الهجمات الإرهابية التى بلغت ذروة خطيرة يوم 11 سبتمبر 2001.
وإذا كان من المفترض والمأمول أن يرتكز أى حوار بين العالم الإسلامى والغرب على مبدأ الخصوصية الثقافية وأن يكون جزءا من الحوار المنشود بين الثقافات فمن دواعى الأسف أن هناك تيارا بأكمله فى الغرب الأوروبى والأمريكى هو التيار اليمينى العنصرى الإقصائى المتطرف يجد فى الهجمات الإرهابية التى تدمى قلوب كل الأسوياء فى العالم فرصة سانحة لمزيد من "شيطنة المسلمين الذين يعيشون فى هذه الدول".
ولاريب أن ظاهرة "الإسلاموفوبيا" أو كراهية المسلمين والخوف المرضى منهم شهدت مدا عاليا فى الغرب بعد هجمات 11 سبتمبر الأليمة الأمر الذى كان يستدعى فى المقابل جهدا ثقافيا عربيا - إسلاميا للتعامل مع هذا المشهد وصياغة أفكار مشتركة تعزز الجهود الرامية إلى تأكيد حقيقة أنه ليس هناك تعارض بين الإسلام ومؤسسات الدولة الحديثة ونبذ الصورة السلبية للإسلام والمجتمعات الإسلامية خارجها.
وفيما تشكل "لغة ومفردات جماعات التطرف والإرهاب وخطابها التكفيرى الاستئصالى" عقبة لا يجوز التقليل من خطورتها على صورة المسلمين وتصورات الغرب عنهم فثمة حاجة فى رأى العديد من المثقفين المصريين والعرب للتركيز على الجوانب الفكرية والثقافية لدحض الأفكار الظلامية للتنظيمات الإرهابية ونشر قيم ومبادئ الإسلام السمحة والوسطية والمعتدلة جنبا إلى جنب مع بحث سبل مواجهة ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التى تجتاح بعض الدول جراء المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والتى تغذيها ممارسات إرهابية ناجمة عن أفكار متطرفة تجافى جوهر الإسلام.
ولظاهرة "الإسلاموفوبيا" انعكاساتها السلبية المباشرة على المسلمين الأبرياء الذين يعيشون فى دول الغرب فيما يتعرض بعضهم لاعتداءات دون مبرر سوى تلك "الصورة الذهنية السلبية الناجمة عن ممارسات ولغة ومفردات الخطاب التكفيرى الاستئصالى لجماعات التطرف والإرهاب التى تقسم العالم إلى فسطاطين".
وفى مواجهة هذا الخطاب قد يكون من المفيد الإشارة لحقيقة مثل أن بعض أفضل الأطروحات الجامعية ورسائل الدكتوراه لباحثين فى قضايا تتصل بالخطاب الدينى الإسلامى والقضايا التى تهم المسلمين نوقشت أصلا فى جامعة السوربون بباريس وغيرها من كبريات جامعات الغرب كرسالة الدكتوراه للإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود وكانت فى التصوف الإسلامى عن موضوع "أستاذ السائرين: الحارث بن أسد المحاسبي" ومن الطريف والدال على تنوع اهتماماته الثقافية أن أول ما نشره قصة ترجمها عن الفرنسية من تأليف اندريه موروا.
كما ارتبط شيخ الأزهر الحالى الدكتور أحمد الطيب بعلاقات علمية وثيقة مع هذه الجامعة الفرنسية وأساتذتها الكبار وكذلك كان الحال فى رسالة الدكتوراه لعلم آخر من أعلام الأزهر وهو العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز والذى حصل على الدكتوراه فى فلسفة الأديان من السوربون عام 1947 وكانت الرسالة من شقين أحدهما "مدخل إلى القرآن الكريم" بينما شقها الثانى حول دستور الأخلاق فى القرآن الكريم.
ولاريب أن المستفيد الحقيقى من وضع مشحون بالشكوك والاحتقانات بين العالم الإسلامى وبقية أنحاء العالم وخاصة فى الغرب الأوروبى والأمريكى هو التيار التكفيرى الاستئصالى كما تعبر عنه جماعات التطرف والإرهاب، فضلا عن التيار الإقصائى العنصرى المتطرف والمعادى للإسلام كدين بقدر ما يناهض الثقافة العقلانية الغربية المرحبة بالتنوع والحوار والتى تعلى من قيم الحرية والإخاء والمساواة والتسامح وقبول الأخر.
وفيما دفع العالم العربى ثمنا باهظا لأفكار ونظريات بعض الساسة فى الغرب مثل "نظرية الفوضى الخلاقة" التى ظهرت بعد أحداث 11 سبتمبر وثبت أنها تشجع التطرف والإرهاب الذى يشكو منه الغرب للمفارقة فقد أثارت قبل ذلك نظرية "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكى الراحل صمويل هنتجتون جدلا مريرا منذ طرحها عام 1993 واعتبرت ضارة بالعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي.
ومن نافلة القول إن الجماعات المتطرفة والإرهابية روعت العرب والمسلمين قبل غيرهم فى هذا العالم والتى تبدو كأدوات جهنمية حافلة بالشرور بقدر ما تخدم التيارات الإقصائية والعنصرية ودعاة الحروب بين الحضارات والثقافات.
ومصر التى تقدم الشهداء فى حربها النبيلة ضد الإرهاب إنما تدافع فى واقع الحال عن العالم ككل بقدر ما تشكل دوما الحصن المدافع عن الحضارة الإنسانية قابضة بالإيمان على رسالتها التاريخية التى تشكل جسرا طبيعيا للحوار بين الحضارات والثقافات.. ورغم ظلال الذكرى الأليمة لأحداث 11 سبتمبر وضحايا الإرهاب فى عالم ما بعد 11 سبتمبر للتاريخ أن يزهو برجال فى أرض الكنانة يحاربون الآن خطرا يهدد الإنسانية كلها.. فتحية للسواعد المصرية النبيلة والخطى الواثقة فى الحرب على الإرهاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة