صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب للمذيع والناقد الأدبى الدكتور خالد عاشور، عنوان الكتاب "إخناتون بين الأدب والتاريخ" قدم للكتاب الدكتور عبد الحليم نور الدين عالم المصريات الراحل، الكتاب ينطلق من المعالجة الأدبية للسياق والأحداث التاريخية، ولعل اختيار المؤلف لإخناتون هذا الفرعون المثير للجدل سياسياً ودينياً فى محله، لما حظى به من اهتمام من الباحثين فى علم المصريات والأدباء على الصعيدين المحلى والعالمي.
حين أقبل الكتاب والمؤلفون على شخصية إخناتون وعصره مادةً لأدبهم، كانوا فى ذلك كمن وجد كنزاً فنياً حقيقياً. إذ تنطوى هذه الشخصية على مجموعة من العناصر تجعلها بحق شخصية ذات مواصفات فنية قياسية، ففضلاَ عن أن إخناتون فى الأصل أديب وفنان، ولم يتبق من تراثه إلا ما يدخل فى دائرة الفن؛ ثمة عناصر أخرى:
يذكر المؤلف أن مجموعة المتناقضات أحاطت بشخصه، فوجهات النظر التى قيلت فيه، تقف كل واحدة منها على طرف نقيض من الأخرى: نبى أم مهرطق، مصلح أم مجرم، ثائر أم متخاذل، قوى أم ضعيف، سوى أم شاذ، رجل أم امرأة؟
كما أن مساحة الغموض التى أحاطت بحياة إخناتون وبمراحلها المختلفة_ من البداية إلى النهاية_ أكبر من مساحة الكشف فى هذه الحياة، فمناطق الظلال أكثر اتساعاً من مناطق الضوء، وما هو غير معروف يربو على ما هو معوف، واليقين فى كلِ غائب.
أضف إلى هذا أن شخصية إخناتون بما ورد عنها فى كتب التاريخ، تجسيد مثالى للبطل المأسوى بالمعنى الفني. وقد ظل انتاء أبطال المآسى فى الآداب القديمة لابد وأن يكون من بين الشخصيات المرموقة، ملك مثلاً أو أمير، مثل ماكبث ولير وهاملت شكسبير، أو شخصيات ذات قوة خاصة كما فى دكتور فاوست. والتعريفات التى وُضعت لمفهوم المأساة فى الفن منذ أرسطو تطبق على هذه الشخصية:
فالبطل المأسوى كما يراه أرسطو: "إنسان لا يتفوق فضلاً وعدلاً، لحقت به مصيبته دون سبب من رذيلة أو عوج، بل عن طريق خطأ فى حكم، من بين أولئك الذين ينعمون بسمعة عظيمة وازدهار، مثل أويديبوس وثايستس، والرجال البارزين من أسر مشابهة.. والتغير فى أحوال البطل يجب ألا يكون من الشقاوة إلى السعادة، بل على النقيض من ذلك، من السعادة إلى الشقاوة، وعلة ذلك يجب ألا تكمن فى أى عوج، بل فى غلطة عظيمة من جانبه، وقد يكون المرء ذاته كما وصفنا، أو أفضل، لا أسوء، من ذلك.
وثمة تعريفات أخرى للمأساة كلها تنطبق على شخصية إخناتون، مثل: "المأساة رواية أحوال الأبطال أو أنصاف الآلهة من الأشخاص فى حال من الشدة". "تتكون المأساة من قصص حزينة عن الأمم والملوك". المأساة حكاية قصة معينة مما تذكره لنا الكتب القديمة، عن امرئ عاش فى خير عميم، ثم هوى من منزلته العالية نحو الشقاوة، وانتهى فى بؤس.
هذا فضلاً عن أن ثم تفاصيل أخرى داخل حياة إخناتون، ضاعفت من "فنية" هذه الشخصية، مثل سماته الجسدية والنفسية التى تنزع نحو الرقة والرومانسية والضعف، وإثارة الشفقة والتعاطف.
كذلك علاقته المثيرة للجدل بأمه، والتى اقتربت فى بعض وجوهها من أن تكون نسخة مصرية فرعونية من "مأساة أوديب". كما وأن العلاقة العاطفية بينه وبين زوجه "نفرتيتي" جعلت من قصتهما "روميو وجولييت" أخرى.
كذلك علاقة الصداقة المتوترة بينه وبين "حور محب"، والتى تتراوح بين البغض والحب، والصراع من أجل المصلحة العامة والخاصة.
والحق أن ثلاثية العلاقة بين إخناتون وبين كل من أمه وزوجه وصديقه، مثلت معالم فاصلة فيما كُتب من أدب حول هذه الشخصية.
ولا شك أن كل هذه العوامل متفرقة ومجتمعة فى شخصية إخناتون وحولها جعلت من هذه الشخصية ، ولا شك أن القماشة فى يد الأديب فى حالة إخناتون كانت طيعة لأبعد حد ؛ فمناطق الفراغ كثيرة، ومواطن الصراع أكثر، والدلالات لا حصر لها، والرموز مطروحة فى طريق الحكاية بل فى طرقها الملتوية والمتقاطعة، والإسقاطات جاهزة، والقراءات والتفسيرات والتأويلات تبذل لك نفسها دون كبير جهد وعناء .
فماذا فعل الأدب مع إخناتون ؟
يمكن أن نقول بحق إن ثمة مكتبة أدبية تكونت إبداعًا حول هذه الشخصية عصرها وحكاياتها، فى الأدب العربى ( فى مصر ) وفى الأدب العالمى أيضًا .
اختلفت فيها منطلقات التناول والمرامى السياسية والاجتماعية والدينية، باختلاف الموهبة والتكوين الفكرى والفنى .
نلمس ابتداءً عند بعض من كتبوا عن إخناتون شعورًا بأن مهمة الكتابة عن هذه الشخصية – رغم متعتها – مهمة محفوفة بالمخاطر الفنية والفكرية، فهى مهمة البحث عن الحقيقة، وما أصعبها من مهمة .
يظهر ذلك فى مفتتح رواية المنسى قنديل " يوم غائم فى البر الغربى " حين يطرح سؤالًا معبرًا عن هذا الإحساس: " من يزيح أقنعة الزمن، وينزع لفائف الكتان عن غموض الحقيقة ؟ " .
وفى مفتتح رواية نجيب محفوظ " العائش فى الحقيقة " نجد ميلاد الرغبة المثيرة فى الكشف: " ولدت الرغبة فى أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة " .
غير أن هذا الكشف محفوف بالمصاعب فهو كشف عن أشياء من عالم العدم. تصف الرواية حياة إخناتون حين تصف مدينته، مدينة "المارق" لتعبر عن هذا المجهول: "مدينة تطل من أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها. مترامية بين النيل غرباً ومحراب الجبل شرقاً، متعرية الأشجار، خالية الطرقات، مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة، لا تنبض بها حياة ولا تند عنها حركة، يجثم فوقها الصمت، وتخيم عليها الكآبة وتلوح فى قسماتها أمارات الموت.
والشغف بالكشف عن الحقيقة المراوغة تتحول فى رواية " العائش فى الحقيقة" إلى ملمح أسلوبى ذى دلالة، إذ تتكرر كلمة "الحقيقة" فى سياقات مختلفة على نحو يدعو للتوقف، كما سنرى.
الإطار الزمانى والمكانى فى الأعمال التى تناولت شخصية إخناتون اختلفت فيما بينها حسب النوع الأدبي، فبينما نجد بإمكان الرواية أن تعود_ زمنياً _ بحكاية إخناتون إلى ما قبل ولادته، وذلك لما تملكه الرواية كنوع أدبى من تمدد زمنى ومكانى غير محدود؛ نجد معظم المسرحيات تدخل بنا مباشرة فى صميم الحكاية وبداية الصراع بين إخناتون وكهنة آمون، وذلك لمحدودية المكان والزمان فى فن المسرحية.
وعادة ما تكون العودة للوراء زمانياً لنطلع من خلاله على خلفيات العداء بين الملكة الأم وكهنة آمون وذلك لتغولهم وتمدد سلطانهم المادى والسياسي، كما فى رواية "ملك من شعاع" التى تبدأ بفصل تذهب فيه الملكة إلى معبد " آتون رع" لتنذر ابنها القادم لها. ومثل ذلك تفعل مسرحية أدليدادن فيللبوتس، فى استثناء نوعي.
أما الإطار المكانى فلم يخرج سواء فى الرواية أو المسرحية عن أخت آتون وطيبة. باستثناء مسرحية ألفريد فرج التى تتضمن مشهداً واحداً فقط فى مدينة منف والبقية فى أخت آتون، ومسرحية أحمد سويلم التى تدور أحداثها كلها فى أخت آتون.
ولقد كان الإطار الجسدى والنفسى لإخناتون كما ذكر الدكتور خالد عاشور فى كتب التاريخ قاسماً مشتركاً فى أدبه. فقدمت الشخصية أولاً من خلال سماتها الجسدية والنفسية، ولكن الأدب قام بتوظيفها فى سياقات مختلفة:
فأحياناً تأتى السمات الجسدية فى سياق "التشخيص " الفنى للشخصية وإبراز ملامحها فقط، دون أغراض فنية أخرى، مثل ما جاء فى رواية " ملك من شعاع"
"كان لا يشفق على ما يحويه برده من جسم نحيل ضعيف". وقوله: "أين هذا الفتى الناحل الجسم، الكبير الرأس، العريض الجبهة، الخفيف الوطء كأنه الخيال؟"