"فضلان أمينى" ترك العمل بالأمم المتحدة وتفرغ للإرشاد السياحى ليشرح لزائرى بلاده "مآساة تسونامى"
"سالمى" فقدت من عائلتها 9 أفراد منهم أمها وجديها وجميع أخواتها وتواجه مصيبتها بالأمل والتفاؤل بالمستقبل
32 عام من النزاع المسلح بين الحكومة والمتمردين يتحول لاتفاق سلام تاريخى خلال 8 أشهر فقط بفضل "غضب الطبيعة"
تسونامى دمر "آتشيه" وقتل حوالى 160 ألف شخص فى وقت واحد..والبلاد تتعافى بفضل عزيمة رجالها
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة إلا خمس دقائق صباحا حينما زلزلت الأرض زلزالها بقوته الهائلة التى تخطت 8.9 على مقياس ريختر لينتهى الزالزل فى الثامنة و15 عشر دقيقة، لتخرج الأرض بعده أثقالها من مياه المحيط بأمواج وصلت ارتفاعها 25 مترا بسرعة 80 كيلو مترا فى الساعة لتجرف الأخضر واليابس حتى الرابعة عصرا من يوم 26 ديسمير عام 2004، ليكتشف سكان إقليم "أتشيه" الواقع فى أقصى شمال جزيرة "سومطرة" بشمال إندونيسيا، أنهم فى خضم أقسى الكوارث الطبيعية فى تاريخ العالم الحديث.
الدمار الشامل الذى خلفه المد البحرى الهائل "تسونامى" الذى ضرب حوالى 14 دولة وأدى لوفاة حوالى 250 ألف شخص أكثر من نصفهم كانوا بالإقليم المنكوب، الذى يعد واحدا من أقدم وأعرق المدن الإسلامية فى جنوب شرق آسيا، لم ينجوا منه سوا عزيمة أهل "أتشيه" اللذين أصروا على عبور كبوتهم التى خلفت عشرات الآلاف من الضحايا معظمهم من الأطفال والنساء، وإعادة بناء مدينتهم التى حطمتها مياه المحيط الهندى فى ثمانى ساعات.
طائرة شرطة دمرها تسونامى
"تسونامى" هو مجموعة من الأمواج العالية العاتية، تنشأ من تحرك مساحة كبيرة من مياه البحار أو المحيطات أو نتيجة زلازل قوى، يؤدى إلى تحرك الأمواج بسرعة هائلة نحو اليابسة ويخلف من ورائه كوارث مدمرة.
عقب الزلزال المدمر الذى أستغرق 20 دقيقة متواصلة، اقتحمت مياه المحيط بسرعتها الهائلة جميع أرجاء مدينة "باندا أتشيه" عاصمة الإقليم والعديد من المدن المجاورة، لتخلف دمارا من المستحيل أن ينساها من عاناها فهى مفعمة بالقصص المؤثرة التى يبكى من قسوتها الرجال وما تزال أصدائها حاضرة حتى يومنا هذا رغم مرور حوالى 13 عام على وقوعها .
وخلال جولة حظى بها "اليوم السابع" داخل الإقليم، رصدنا العديد من تلك القصص الإنسانية المؤثرة، وكذلك رصدنا إعادة أعمار الإقليم الذى يضم 3 محافظات، وقد تمت المحافظة على العديد من آثار تسونامى لتتحول إلى مزارات سياحية يأتى إليها القاصى والدانى من كل حدب وصوب.
مجسم لخريطة أقليم اتشيه يوضح المناطق التى ضربها تسونامى
فى تمام الرابعة عصرا، تراجعت مياه المحيط وعادت إلى أدراجها، كما عادت الحياة لطبيعتها مرة أخرى، لكن الدمار والحطام وجثث القتلى كانت متناثرة فى كل مكان، فقد غطت الأشلاء جميع أرجاء المدينة، وقدر عدد ضحايا "باندا أتشيه" وحدها بحوالى 160 ألف شخص، ولكن الاكثر فظاعة، لم يكن يأتى بعد، فمعظم جثث الضحايا لم يكن لها وجود، فقد ابتلعتها مياه المحيط خلال عملية الجزر، واستقر معظمها داخل بطون الأسماك، وهو الأمر الذى جعل سكان الأقليم يمتنعون عن أكلها لعدة سنوات عقب الكارثة لأنها كانت ممتلئة بأشلاء أقربائهم.
التحول من الألم إلى الأمل
كانت المياه سوداء ودافئة، لكنها لم تكن أسود من تأثير الكارثة التى حطمت قلوب من نجى منها، فهناك من فقد العشرات من عائلته دفعة واحدة، وهناك من فقد الأب والأم والأخوات، وهناك من فقد جميع الأبناء، كانت الكارثة فظيعة والصدمة مفجعة، لكن سرعان ما تحول الألم إلى أمل والمحنة الى منحة، والنقمة إلى نعمة، والدمار إلى ازدهار.
واجهة متحف تسونامى باقليم اتشيه
فبعد الكارثة تواصلت جهود إعادة اعمار دمارها لما يقرب من 7 سنوات،حيث أنشأت إندونيسيا متحفا عالميا أطلقت عليه اسم "متحف تسونامى" ليكون شاهدا على ما حدث، وليكون مصدرا للمعرفة الموثقة بالصور ومقاطع الفيديو للزوار لهذا الإقليم المشهور بخصوصيته الإسلامية وقوانينه التى تطبق فيها الشريعة الإسلامية بسلاسة ووسطية كبيرة على برامجها السياحية للسائحين اللذين يأتون إليه، فحولت الإقليم المنكوب إلى وجهة سياحية عالمية.
شدة إيمان أبناء هذا الإقليم بضرورة دعم السياحة فى بلدهم، جعل العديد من ابناء وأهالى الضحايا أنفسهم مرشدين سياحيين، كـ"فاضلان أمينى"، المرشد السياحى الذى التقينا به خلال جولتنا، فهو من مواليد 1971، وفقد 12 شخص من عائلته خلال الكارثة، ورغم دراسته للهندسة الكيميائية والتصوير السينمائى والعمل كصحفى فترة من حياته، إلا أنه عمل كمرشد سياحى منذ عام 2010 لتعريف الزائرين لبلاده بمعلومات عن الكارثة التى ألمت بها.
محرر اليوم السابع خلال حديثه مع فضلان أمينى المرشد السياحى فى اتشيه
متحف "تسونامى".. شاهد على الكارثة
بدأت جولتنا بالإقليم بزيارة إلى "متحف تسونامى" الذى بدأ العمل فى إنشائه عام 2007 وانتهى بناؤه عام 2009، والوحيد من نوعه فى دول جنوب شرق آسيا، ويبدأ الدخول إلى قاعات المتحف بـ"نفق الحزن" وهو نفق طويل ومظلم، ليعكس للزائرين إحساس اللحظات الأولى وقت وقوع كارثة المد البحرى الهائل، مع أصوات الأمواج عبر سماعات ضخمة لينقل أحساس الغرق.
قاعة الشاشات الاكترونية بمتحف تسونامى
وعقب عبور النفق توجد صالة كبرى تضم أجهزة كبيرة بها شاشات إلكترونية تفاعلية يعرض خلالها لقطات مصورة للأحداث المأساوية بجانب شرح علمى مبسط حول كيفية وقوع الكارثة، كما تضم الشاشات عدد من قصص الناجين يمكن للزائر قراءتها بالإضافة إلى ملخص حول كيف رص العالم الكارثة عبر وسائل إعلامه المختلفة.
بعد الخروج من صالة الشاشات الالكترونية يوجد ممر مظلم أيضا نهايته قاعة بيضاوية كبيرة بها أسماء جميع الضحايا الذين سقطوا خلال الكارثة مع تلاوة للقرآن الكريم باللغة العربية، وهناك يمكن للزائرين المسلمين قراءة الفاتحة على أرواح من رحلوا.
محرر اليوم السابع داخل قاعة تخليد ضحايا تسونامى
نهاية قاعة تخليد أسماء الضحايا، يوجد جسر للصعود، يشير إلى العودة للحياة مجددا بعد انتهاء الكارثة، ليجد الزائر نفسه أمام قاعة أخرى كبيرة ومضيئة تضم جميع أعلام الدول التى شاركت فى إرسال المساعدات الإنسانية والغذائية وأعمال الدعم والإغاثة ومواد البناء لإعادة الأعمار، والتى كانت مصر من بينها.
قاعة الأعلام الكبرى للدول المشاركة فى اعمال الأغاثة
يشمل المتحف مجسمات ثلاثية الابعاد داخل قاعة كبرى أخرى بجوار قاعة أعلام الدول، وذلك لكى يعيش الزائر أجواء الكارثة تفصيليا، منذ بدايتها وحتى وصول المياه إلى شوارع المدن، وهروب السكان إلى داخل المدينة بعيدا عن المياه المندفعة، ومجسمات أخرى للأمواج العاتية التى وصل ارتفاعها حوالى 25 مترا.
وفى أحدى قاعات المتحف، توجد صالة توثق عملية الصلح التى تمت بين المتمردين والحكومة الإندونيسية بعد نزاع مسلح أستمر لمدة 32 عاما، أنتهى بعد حدوث الكارثة، حيث وقع الطرفان اتفاقية سلام تاريخية بعد مفاوضات استمرت 8 أشهر فقط.
ووفق حديث فضلان أمينى لـ"اليوم السابع"، يعتبر المتحف ملجئ ضخم فى حال حدوث المد البحرى الهائل مرة أخرى، حيث تم بناء غرف محصنة عملاقة تستوعب عشرات الآلاف من البشر، كما يشمل قاعة لتعليم الناس الخطوات اللأزمة للبقاء على قيد الحياة فى حال حدوث "تسونامى" مرة أخرى، كما يضم كتب وأشرطة فيديو، لفهم وإدارة الزلزال ومواجهة الموجات المائية العملاقة.
ساعة توقفت عن العمل فور دخول مياه تسونامى بالمنزل التى كانت موجودة بداخله
وتضم أحدى قاعات المتحف بعض بقايا أغراض الضحايا الذين سقطوا فى الكارثة، فهناك ساعة منزل توقفت عقاربها عند الساعة الثامنة والربع وهو وقت دخول المياه للمنزل الذى كانت تتواجد فيه الساعة، وايضا قطع ورقية من آيات القرآن الكريم التى لم تستطع مياه "تسونامى" أن تنال منها.
واللافت للنظر، فى أحدى المجسمات الثلاثية الأبعاد، مجموعة من السكان ذهبوا لاصطياد الاسماك بعد انحسار المد بشكل سريع مما أغراهم وجعلهم يذهبون للشاطئ لالتقاطها لكن سرعان ما عاد المد البحرى مرى أخرى بموجة عالية للغاية التهمت جميع من كانوا على الشاطئ.
ويضم المتحف أيضا مكان لهبوط الطائرات الهليكوبتر، للمساعدة فى عمليات الإنقاذ فى حال تكرار الكارثة، كما يشمل وحدات إنذار مبكر عملاقة تطلق صفاراتها قبل الزلزال بنص ساعة لتجميع السكان داخل الملاجئ المحصنة تحسبا لآى خطر تسونامى جديد.
جانب من الطائرة التى دمرها تسونامى
وفى نهاية الجولة داخل المتحف العملاق توجد قاعة سينمائية يعرض فيها فيلم وثائقيا لمدة 8 دقائق عن مشاهد الكارثة منذ بدايتها مع شرحا تفصيليا للمساعدات الكبيرة التى تدفقت على الإقليم المنكوب من جانب الدول والمنظمات الدولية والتى بلغت حوالى 7 مليار دولار.
سفينة نوح الإندونيسية.. قارب على قمة سقف منزل
الوجهة التالية لجولتنا كانت إلى معلم سياحى آخر لإحياء ذكرى ضحايا تسونامى، وهى منطقة "لامبولو"، على بعد حوالى 2 كم من وسط مدينة "باندا أتشيه"، حيث ترقد فى منتصف القرية "سفينة صيد" صغيرة استقر بها الحال على سطح أحدى المنازل بعد أن قذفتها مياه المحيط إلى هذا المكان.
السفينة التى سقطت فوق أحد أسطح المنازل
وقد أطلق السكان المحليين على القارب الصغير اسم "سفينة نوح" حيث كان لها الفضل فى إنقاذ أكثر من 20 شخص كانوا عالقين فى المكان الذى سقطت فيه السفينة.
وبعين يملئها دموع الحزن وعين أخرى يشع منها بريق الأمل والمستقبل سردت "سالمى" المرشدة السياحية بالموقع قصة أهلها الذى راحوا فى موجات تسونامى، فقد فقدت 9 أشخاص دفعة واحدة من بينهم والدتها وجديها وجميع أشقائها، ولكن رغم مصيبتها الكبيرة فهى تحلم أن تتحول بدلتها التى ضربت بأمواج المحيط العاتية إلى أهم وجهة سياحية فى العالم.
محرر اليوم السابع أمام سفينة نوح الإندونيسية
وقالت الفتاة ثلاثينية العمر، إن قارب الصيد الذى قذفته المياه تسبب فى إنقاذ العشرات خلال مأساة تسونامى، عندما ضربت موجة وكان هذا القارب عائم واقترب من بعض الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل فجأة فى أعلى المنزل، حيث قفزوا إلى القارب معا ولحسن الحظ توقف القارب فوق منزلها.
مجسم للسفينة التى أنقذت عدد من الأهالى خلال تسونامى
مسجد "رحمة الله".. المسجد المعجزة
ومن بين الأمور الآخرى، التى حولتها إندونيسيا لمعالم سياحية تكون جاذبة للسائحين من أرجاء العالم فيما يعرف بـ"سياحة تسونامى"، مسجد "رحمة الله" ويقع هذا المسجد المعجزة بالقرب من شاطئ منطقة "لامبوك"، فى منطقة "لوكنجا الفرعية"، على بعد حوالى 16 كم من وسط مدينة باندا أتشيه عاصمة الإقليم.
وكان المسجد هو المبنى الوحيد الذى لا يزال قائما فى أكثر المناطق دمارا خلال مأساة تسونامى، فقد دمرت جميع المبانى بتلك المنطقة بالكامل وجرفتها المياه المندفعة بقوة، باستثناء هذا المسجد.
القبة المتحركة لمسجد "قرة".. طوافة الإنقاذ
من بين معالم "سياحة تسونامى" أيضا قبة مسجد كبير فى قرية "جورا"، فى حى "بيوكان بادا"، على بعد حوالى 7 كم من وسط مدينة باندا آتشيه، فخلال كارثة تسونامي، دفعت الموجة القبة بعيدا عن المبنى الرئيسى وكانت سببا لنجاة عدد من الأشخاص تقطعت بهم السبل فى منتصف حقل أرز كان يبعد حوالى 1 كم عن المسجد الذى خلعت قبته، لتتحول كطوافة نجاة لهم.
وأصبحت القبة نصب تذكارى فى ذكرى المأساة والضحايا، ووضعته الحكومة الإندونيسية كموقع سياحى ذات الصلة بكارثة تسونامي، ووضعت سياج حول القبة وأجرت بعد الترميمات عليها.
حديقة "شكرا للعالم"
وقد أقامت السلطات فى إقليم "أتشيه" حديقة كبيرة أطلقت عليها اسم "حديقة شكرا للعالم"، وتقع هذه الحديقة فى وسط مدينة باندا آتشيه.
محرر اليوم السابع يقرأ الفاتحة على أرواح ضحايا تسونامى
ولإظهار شكر أتشيه لدول العالم التى ساهمت فى عمليات الإنقاذ وإعادة الإعمار، فإن السلطات أقامت هذه الحديقة كنصب تذكارى لكارثة تسونامى، ولتكون بمثابة تحية لجميع الدول التى قدمت المساعدات الإنسانية لشعب أتشيه.
مقابر تسونامى الجماعية
بعد الكارثة الإنسانية التاريخية، أنشاءت السلطات الإندونيسية مقابر جماعية ضخمة لضحايا الحادثة، تعد الأكبر فى العالم، وقد وضعتها ضمن المزارات التى تخلد ذكرى ضحايا الكارثة.
جزء من قاعة تخليد أسماء ضحايا تسونامى
وتقع إحدى المقابر الجماعية لضحايا تسونامى فى شارع "سلطان إسكندر" حيث تحتوى على 14.264 جثة فى الداخل، وتقع المقبرة الجماعية الأخرى فى منطقة "سيرون" فى مدينة "آتشيه بيزار"، على بعد حوالى 5 كيلومترات من مطار سلطان اسكندر مودا الدولى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة