تبرهن مأساة الأقلية المسلمة فى ميانمار والمعروفة بـ "الروهينجا" على خطورة "ثقافة الكراهية والخطاب التحريضى"، مقابل غياب "ثقافة التسامح وقبول الآخر" فيما تحول أكثر من مليون إنسان فى هذه الدولة الواقعة جنوب شرق آسيا لأمثولة المستضعفين فى الأرض.
وفيما تتوالى الأنباء والتقارير الإخبارية مؤكدة "تفاقم الأوضاع المأساوية للروهينجا"، فى ميانمار جراء الموجة الجديدة من أعمال العنف التى اندلعت فى شهر أغسطس الماضى، فإن منابر ودوريات ثقافية هامة فى الغرب مثل "نيويورك ريفيو" تنشر طروحات حول هذه الأوضاع بصورة أكثر تعمقا.
وفى هذا السياق، سلط الكاتب والناقد الثقافى جافين جاكوبسون أضواء كاشفة على جذور الموجة الجديدة للعنف والكراهية فى ميانمار، مشيرا إلى أن مأساة الروهينجا باتت تجذب اهتمام بعض المثقفين والفنانين وصانعى السينما فى الغرب الذين التقاهم ضمن جهده الثقافى للوصول لجذور مأساة الروهينجا.
وأوضح جافين جاكوبسون أن "ما سوى يين" يعد أكبر الأديرة للرهبان والنساك البوذيين فى منطقة مندالاى التى تضم مدينة بالاسم ذاته هى ثانى أكبر مدينة فى ميانمار بعد يانجون وكانت آخر عاصمة لمملكة بورما فى الماضى.
وعبر جولة فى هذا الدير الواقع بالشطر الغربى لماندالاى والذى يضم نحو 2500 راهب بوذى لاحظ جافين جاكوبسون، مظاهر الكراهية ضد الإسلام كدين ومحاولة الصاق الجرائم التى ترتكبها عناصر إرهابية ومتطرفة بهذا الدين دون محاولة لإيضاح البون الشاسع بين تلك العناصر الإرهابية وبين الإسلام.
وضمن هذه الأجواء التحريضية والمشحونة بالكراهية فى دير يضم الكثير من النشء والشباب الذى انخرط فى سلك الرهبنة البوذية تحدث الكاتب والناقد الثقافى جافين جاكوبسون عن مشاهد ومشاهدات تتضمن بعض الصور المعلقة على الجدران الداخلية لدير "ما سوى يين" لجرائم دموية ارتكبتها عناصر إرهابية تتمسح بالإسلام مع إحالات وإشارات عن أعمال عنف مزعوم من جانب مسلمى الروهينجا ضد الأغلبية البوذية فى ميانمار.
ومضى البريطانى جاكوبسون فى مشاهداته وملاحظاته الدالة، ليشير إلى الراهب البوذى اشين ويراثو الذى يقود من هذا الدير أو المعبد البوذى، حملة الكراهية ضد مسلمى ميانمار الذين يشكلون حسب قوله نحو 4 فى المائة من مجموع سكان هذه الدولة الأسيوية.
ووفقا لهذا الكاتب والناقد الثقافى الغربى، فإن اشين ويراثو بممارساته التحريضية وتبنيه لخطاب الكراهية ضد الروهينجا يعد مسؤولا عن الموجة الأخيرة من أعمال العنف والتى وصفها بأنها من أسوأ موجات العنف العرقى فى التاريخ الحديث لميانمار، فيما تصفه صحف ومجلات غربية شهيرة مثل "التايم" بأنه "وجه الإرهاب البوذى".
وأعاد جاكوبسون للأذهان ناشين ويراثو صاحب الخطاب التحريضى والمشحون بالكراهية ضد الروهينجا كان قد سجن من قبل لمدة تسع سنوات حتى أطلق سراحه ضمن عفو عام فى سنة 2012 ليعود بقوة لحملاته التحريضية ضد الروهينجا الذين يرى "أنهم لا مكان لهم فى ميانمار"، فيما ينشط داخل حركة تتبنى هذه الأفكار المفعمة بالكراهية وتعرف "بحركة 969".
وعبر لقاءات متعددة مع مثقفين فى الغرب معنيين بالأوضاع المأساوية لمسلمى الروهينجا ترددت مقولة إن هذه الأقلية فى ميانمار، "تتعرض لعملية إبادة جماعية ببطء"، فيما يكشف جهده الثقافى المتعمق عن محاولة أصيلة؛ "لإضاءة جانب قاتم فى السلوك الإنسانى".
والبوذية ذاتها كمعتقد تتسم بالتسامح والرفق وتتوافق مع حقوق الإنسان، كما تؤكد اونج سان سوتشى زعيمة الحزب الحاكم فى ميانمار، والتى كانت تتبنى خطابا يدافع عن الحرية والديمقراطية أثناء قيادتها للمعارضة وحصلت على جائزة نوبل للسلام، غير أنها لم تفعل فى الواقع ما يمكن أن يعتد به لحماية هذه الطائفة المعذبة فى بلادها حتى أمست موضع انتقادات متعددة من جانب الصحافة الغربية.
فاونج سان سوتشى التى لم تتول منصب الرئاسة لأن لديها أطفالا يحملون جنسية أجنبية غير أنها الشخصية الأقوى سياسيا لزعامتها للحزب الحاكم حاليا لم تتبن بعد مواقف علنية دفاعا عن العدالة وحقوق الإنسان للمسلمين فى بلادها وهو ما يفسره محللون بحسابات السياسة وقلقها من تراجع شعبيتها حال اتخاذها مواقف صريحة وعلنية تتحدى القيادات البوذية المتعصبة وتنحاز لهؤلاء المستضعفين والمضطهدين لحد إنكار وجودهم.
وفى كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان: "السيدة والطاووس: حياة اونج سان سوتشى"-يتناول المؤلف بيتر بوفام بعمق التراث النضالى لشعب ميانمار فى مواجهة الاستبداد الذى أزهق أرواح الآلاف من أبناء هذا الشعب مسلطا المزيد من الأضواء الكاشفة على شخصية "المناضلة أونج سان سوتشى الحائزة على جائزة نوبل للسلام تقديرا لشجاعتها ودفاعها الجسور عن الديمقراطية".
وإذا كان هذا الكتاب كجهد ثقافى غربى قد تعرض لأوضاع الأقليات فى ميانمار فإنه من الواضح إن هذه الأقليات وخاصة أقلية الروهينجا المسلمة تدفع الثمن الفادح لممارسات جماعات تتستر بشعارات دينية مثل الجماعات البوذية المتطرفة فى ميانمار التى تعمد للتلاعب والمناورة وبث الفتن بين أبناء الشعب الواحد كورقة تحقق لها ما تتصوره من مكاسب.
وتصطف الأقلية المسلمة إلى جانب الحرية والديمقراطية وكانت مؤيدة لمواقف اونج سان سوتشى رغم أنها لم تفعل الكثير لنصرتهم، فيما كان هؤلاء المسلمون قد قاوموا ببسالة الاحتلال البريطانى لبلادهم ميانمار أو بورما فى السابق بين عامى 1886 و1948 وقدموا آلاف الشهداء.
ولئن صح القول إن الإرهاب يتغذى ويستفيد من جذور المظالم التاريخية والآنية، فإن مظلومية الروهينجا تجمع ما بين التاريخ والحاضر حتى باتت عنوانا لمأساة متعددة الألوان والأبعاد ما بين قتل وتعذيب واقصاء وحرمان من الجنسية والحقوق السياسية.
وكما اتفقت العديد من المراجع والطروحات على أن معاناة الروهينجا بدأت منذ نحو سبعة عقود فهناك اتفاق أيضا على أن هذه المعاناة بلغت ذروتها فى الأعوام الخمسة الأخيرة حتى باتوا من أكبر المجموعات "عديمة الجنسية" على مستوى العالم، فيما تتواتر تقارير مؤكدة أن الممارسات القمعية وعمليات التهجير القسرى لهذه الطائفة مازالت مستمرة.
ولا ريب أن هذه المأساة تضع الضمير العالمى على المحك بقدر ما يعنى إزالة المظالم التى تحيق بأكثر من مليون إنسان سد الذرائع أمام الإرهاب وتجفيف منبع من منابع شروره وحرمانه من المتاجرة بآلام بشر تحولوا إلى أمثولة لمعنى العذاب.
ومع أن الأمم المتحدة أمست تسلم بأن "الروهينجا" من أكثر الأقليات المضطهدة فى العالم، فإن السلطات فى ميانمار لا تتورع عن إبعادهم عن بلادهم فى قوارب خشبية مهترئة تستحق وصفها "بقوارب الموت"، وذلك لإرضاء جماعات بوذية متطرفة فى هذه الدولة.
وأكد الأزهر الشريف فى بيان سابق أن ما يرتكب ضد المسلمين فى ميانمار من انتهاكات وأعمال عنف تسببت فى مقتل وتشريد عشرات الآلاف من الأبرياء "تمثل انتهاكا صارخا لجميع المواثيق والأعراف الدولية".
ومشكلة المسلمين فى ميانمار أو "الروهينجا" الذين يقدر عددهم فى حده الأدنى بنحو 1,3 مليون نسمة، أنهم يواجهون حالة انكار رسمى لوجودهم فى بلادهم وهذه الاشكالية الوجودية تتجلى على مستوى الأقوال والأفعال معا حيث لا تتورع حتى قيادات روحية بوذية عن تأجيج ثقافة الانكار لأى وجود للروهينجا بين الأقليات فى هذا البلد.
ومن هنا لم يكن من الغريب فى ظل حالة الانكار لوجود بشر لهم حقوقهم المفترضة أن تتدنى أوضاعهم الاقتصادية، فيما حرموا من حرية الحركة والتنقل داخل ميانمار حتى بعد فوز حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية الذى تتزعمه أونج سان سوتشى فى الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى فى شهر نوفمبر عام 2015.
وجسد قرار حرمان الروهينجا المسلمين من المشاركة فى العملية الانتخابية الأخيرة خطورة استغلال الدين فى السياسة، لأن هذا القرار صدر تحت وطأة ضغوط قيادات بوذية متعصبة، فيما تسعى أغلب الأحزاب والقوى السياسية لاسترضاء هذه القيادات المؤثرة على جموع الناخبين فى ميانمار، كما أنه من المثير للتأمل أن تلك القيادات البوذية المتعصبة تستغل فظائع ترتكبها جماعات إرهابية تتستر بشعارات دينية فى العالم العربى لتخويف المواطنين فى هذا البلد من أى وجود لمسلمين.
ومأساة الروهينجا تجاوزت التهميش إلى انكار الوجود وكان من المثير للسخرية ان يأتى قرار حرمان الروهينجا من المشاركة فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة رغم أنهم بأى معيار عادل يشكلون مكونا من مكونات المجتمع المتعدد الأعراق واللغات فى ميانمار، بينما يتحدث الخطاب الرسمى فى هذه الدولة ذات الأغلبية البوذية التى يتجاوز عدد سكانها 55 مليون نسمة عن دعم الإصلاح وتعزيز المصالحة الوطنية والاتجاه بقوة نحو الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد المختلط.
وبقدر ما تعبر مأساة المسلمين فى ميانمار عن مأساة من العيار الثقيل وتشكل اختبارا لمصداقية النظام العالمى وصدقية شعارات حقوق الإنسان، فإنها تكشف عن ثقافة تسود على المستوى الرسمى فى هذا البلد ترفض التنوع وتنكفىء على نظريات للنقاء العرقى المزعوم بما يعيد للأذهان نظريات عرفتها دول مثل ألمانيا واليابان فى أيام كالحة أفضت لحرب عالمية أزهقت أرواح ملايين البشر وانتهت بهزيمة النخب العنصرية التى تبنت هذه النظريات المشؤومة.
فالدم الذى يدق النوافذ ويصفع العيون فى ميانمار يعبر بلغة الموت عن إشكالية ثقافية ترتبط بقبح التعصب فى ظل حالة التعتيم والغموض بهذه الدولة الآسيوية التى كانت تحمل من قبل اسم "بورما"، فيما ذهبت تقديرات معلنة إلى أن عدد الضحايا من الروهينجا فى موجة عنف عاتية من موجات التطهير العرقى تعرضوا لها منذ نحو خمسة أعوام وصل إلى 70 ألف شخص.
وكان من اللافت حينئذ بقدر ما هو باعث على الدهشة والاستنكار أن يعلن ثين سين الذى كان يشغل منصب رئيس ميانمار أن حل أزمة الروهينجا يكمن فى ترحيلهم لدولة أخرى أو إقامة مخيمات لاجئين تأويهم، فيما يروج نظام الحكم فى هذه الدولة أن ابناء الروهينجا هم من المهاجرين حديثا من الهند وبنجلاديش، مع أن الأمم المتحدة دحضت مثل هذه المزاعم.
وكان يانجى لى المقرر المعنى بحقوق الإنسان فى ميانمار قد أخطر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أنه ليس للروهينجا سوى خيارين: إما البقاء فى ميانمار حيث الموت أو الفرار لبلدان أخرى.
وفى ظل وضع كهذا، كان من الطبيعى أن ينضم أبناء الروهينجا لما يعرف عالميا "بلاجئى القوارب"، وأن يجوبوا البحار والمحيطات مثلهم مثل بقية المعذبين فى الأرض بحثا عن ملاذ آمن، غير أنهم كغيرهم أيضا وجدوا أنفسهم ضحايا لتجار البشر ومهربى اللاجئين المتربحين من عذابات البؤساء.
وتفيد تقارير عديدة أن الكثير من لاجئى القوارب المنتمين للروهينجا تحولوا إلى عبيد وعاملين بالسخرة فى بلدان كتايلاند، وباتوا أقرب لسلعة يتاجر بها سماسرة حسب مستويات العرض والطلب فى أسواق عالم يتشدق من حين لآخر بحقوق الإنسان.
والمؤسف حقا أن "عمليات غسيل الأدمغة" المستمرة منذ أمد طويل فى ميانمار وعلى تعاقب الأنظمة الحاكمة، أسفرت عن قبول شعبى شبه عام للموقف الرسمى فى هذه الدولة الرافض والمنكر لوجود أقلية من المسلمين تستحق حقوق المواطنة.
وفى شهر مارس من العام الماضى، تولى تين كياو من حزب الرابطة الوطنية من اجل الديمقراطية منصب رئيس ميانمار وتحدث عن أهمية الالتزام الدستورى بالقيم الديمقراطية الحديثة، غير أن هذا الاعلان لم ينعكس بصورة إيجابية حتى الآن على أوضاع طائفة الروهينجا المسلمة.
وفى عام 1988 أمرت الطغمة الحاكمة فى ميانمار حينئذ قواتها باطلاق النار على المتظاهرين السلميين، مما أدى لمقتل الآلاف من المدنيين العزل كما اختفى الآلاف فى غياهب السجون والمعتقلات ومعسكرات العمل الإجبارى.
ومشكلة الروهينجا مزمنة، فمنذ إعلان استقلال بورما فى عام 1948 لم يعترف الدستور بأولئك المسلمين بدعوى أن أجدادهم لم يكونوا من أبناء البلد الأصليين ومنذ ذلك الحين لم تتعامل معهم السلطة أو الأغلبية البوذية كمواطنين.
وهكذا ظل أبناء الروهينجا طوال الوقت عرضة للاضطهاد والاقصاء ومهددين بالطرد إلى ما وراء الحدود واستمروا عرضة لممارسات التطهير العرقى وطرد منهم إلى الجارة بنجلاديش دفعات على فترات متفاوتة تراوحت بين 150 ألفا ونصف مليون نسمة.
وشجعت تلك الحملات غلاة البوذيين للاعتداء على ممتلكاتهم واحراق بيوتهم وزراعاتهم وممارسة مختلف صور العنف الجسدى بحقهم، حتى أن أبناء الروهينجا منعوا كثيرا من الانتقال من قرية لآخرى وحظر عليهم دخول المدن الكبرى مثل رانجون.
فالأصل هو اضطهادهم والتنكيل بهم لمجرد أنهم مسلمون غير مرغوب فى وجودهم وحين يرتكب أحدهم أى خطأ، فإن الجميع يتعرضون لأقسى العقوبات.
وتذهب بعض المصادر والإحالات التاريخية إلى أن أصول مسلمى بورما ترجع للجزيرة العربية حيث هاجر الأجداد للصين واندونيسيا ومنطقة جنوب شرق آسيا، فيما أشار بيتر بوفام فى كتاب "السيدة والطاووس" إلى أن مسلمى ميانمار جاء أغلبهم من البنغال عندما كانت بورما والبنغال جزءا من الإمبراطورية البريطانية.
وتحظى ميانمار بحكم موقعها بأهمية جغرافية- سياسية وهى تحادد الصين والهند اللتين تقدمان لها الكثير من المساعدات بما فى ذلك مشاريع البنية الأساسية، كما يوضح كتاب "عندما تلتقى الصين والهند: بورما وتقاطعات الطرق الجديدة فى آسيا" بقلم ثانت مينتو.
وهكذا، فإن مأساة الروهينجا تؤكد خطورة استفحال ثقافة الكراهية والتعصب وسطوة النمط الأحادى، مقابل غياب أو تغييب ثقافة التسامح وقبول الآخر..فهل يطول انتظار الروهينجا للعدالة وتستمر المأساة على دروب لعنة التعصب؟.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة