كيف ينظر المبدعون الأتراك للمشهد الراهن فى تركيا؟ ها هى الأديبة والمبدعة التركية إليف شفق تقدم الإجابة التى تعبر عن ضمير المثقف الحر وحكمة استنطاق التاريخ.
وتتحدث صاحبة "مرايا المدينة" و"النظرة العميقة" و"قواعد العشق الأربعون"، عن الدول التى لا تتعلم دوما من التاريخ وهى ظاهرة محزنة تعانى منها الآن تركيا فى ظل نظام حكم رجب أردوغان، "حيث لا يتحرك التاريخ إلى الأمام بل يتراجع للخلف فيما لا يتعلم النظام الحاكم شيئا مفيدا من أخطائه".
ومن الواضح أن نظام أردوغان لم يتعلم شيئا أيضا من التاريخ وهو يمضى بحمق لفرض تصوراته الظلامية و"أوهام العثمانية الجديدة" على الجوار ودول المنطقة، فهناك فارق جوهرى حقا بين تفاعلات حرة وطبيعية وتلقائية وتاريخية ومستديمة بين العرب والأتراك كمكونين أصيلين فى العالم الاسلامى فضلا عن علاقة جوار وتقاسم لسمات حضارية وعوامل ثقافية، وبين هيمنة ثقافة على أخرى كما هو الحال فى "مشروع تتريك المنطقة"، أو "العثمانية الجديدة".
ومن منظور تاريخى فإن الكثير من مثقفى الأمة العربية مثل عبد الرحمن الكواكبى دفعوا ثمن المواجهة مع "ثقافة التتريك" التى كانت تنتهجها دوائر عليا فى الامبراطورية العثمانية لاعلاء الثقافة التركية على حساب الثقافة العربية بل ومحاولة تهميش هذه الثقافة رغم أنها مرتبطة جوهريا بالإسلام.
وواقع الحال أن ايديولوجية "العثمانية الجديدة"، والتى لا تعنى فى جوهرها إلا "تتريك المحيط الإقليمى الواسع وفرض النفوذ التركى على منطقة شاسعة على غرار الامبراطورية العثمانية القديمة، باتت تحكم وتتحكم فى السلوك السياسى لنظام أردوغان بقدر ما يدفع المبدعون والمثقفون الأتراك مثل اليف شفق ثمنا باهظا لهذا السلوك.
وبعد نشر روايتها "لقيطة اسطنبول" عام 2006 فى تركيا تعرضت اليف شفق لحملة شعواء من جانب التيار الاردوغانى حتى انها مثلت أمام القضاء كمتهمة باهانة وطنها غير أن الأمور تتفاقم أكثر الآن.
فالأوضاع بالنسبة للكتاب والمبدعين والناشرين- فى نظر اليف شفق-لم تكن أبدا مخيفة وقاتمة مثلما هى اليوم فيما تضيف فى طرح نشرته بالانجليزية فى جريدة "الجارديان" البريطانية أنه على مدى العقد الأخير راحت هذه الأوضاع تتفاقم تدريجيا فى البداية ثم مضت تتردى بسرعة مخيفة.
ولم تتردد هذه المبدعة التركية الكبيرة وصاحبة رواية "شرف" فى توجيه الاتهام لنظام أردوغان باعتباره سبب هذا التردى المخيف فى المشهد الإبداعى التركى وتفاقم أوضاع المبدعين والكتاب والناشرين. معتبرة أن نظام أردوغان "مناهض للديمقراطية وتعدد الآراء والتنوع والتسامح"، ناهيك عن قيام هذا النظام بتغيير جوهر الحكم الذى كان يقوم على "الديمقراطية البرلمانية" إلى دولة "يحتكر فيها أردوغان السلطة وتقوم على الحكم المطلق".
وهكذا تنعى إليف شفق الديمقراطية فى تركيا فى غياب سيادة القانون والفصل بين السلطات والحريات الأكاديمية وحقوق النساء فضلا عن غياب حرية الإعلام معيدة للأذهان أن الآلاف من المثقفين الأتراك طردوا من وظائفهم فى ظل نظام الحكم الأردوغانى وصعود أيديولوجية التطرف ورفض التسامح مع حرية التفكير بشكل مختلف.
وأشارت إلى ظاهرة استخدام نظام أردوغان "لسلاح الملاحقات القضائية ضد المفكرين والمبدعين والكتاب والصحفيين والأكاديميين" معيدة للأذهان أن أحد أشهر رسامى الكاريكاتير فى تركيا وهو موسى كارت قضى خمسة أشهر فى السجن ثم نال إفراجا مشروطا ويمكن أن يدخل السجن مجددا لكن هذه المرة لمدة تصل إلى 29 عاما.
ومن ثم لم يعد من المستغرب القول بأن أخطر المهن فى تركيا الأردوغانية هى تلك التى ترتبط بحرية التفكير والإبداع والتعبير مثل الصحافة والأدب وهو وضع عانت منه إليف شفق بعد أن نشرت رواية "لقيطة إسطنبول" فى تركيا.
ورواية "لقيطة إسطنبول" تتعرض للمجازر التى تعرض لها الأرمن فى تركيا عامى 1916 و1917 وهى مسألة تعد من المحرمات التركية بينما تصف اليف شفق هذه الرواية وهى السادسة لها بأنها فى الحقيقة رواية حول الأسرار العائلية المدفونة واهمية كشفها والحديث عنها علانية وان كان بعضها يدخل فى باب المحرمات السياسية فى بلادها.
وتقول شفق التى ولدت فى الخامس والعشرين من اكتوبر عام 1971 انها ذهبت فى "تآملات حول الرحلة الثقافية والسياسية لتركيا" عندما طلبت منها "راديو 4" التابع لهيئة الإذاعة البريطانية "بى بى سي" تقديم روايتها "لقيطة إسطنبول" فى سياق مايعرف "بموسم القراءة الأوروبي" فى شهر يناير الجاري.
وإذ أوضحت بحسها الصوفى ان "رحلة التآملات دارت فى أيام وسنوات مابعد نشر روايتها لقيطة إسطنبول فى تركيا" فان اليف شفق التى ترجمت اعمالها لنحو 30 لغة ترى ان تركيا تشهد الآن "صداما بين الذاكرة وفقدان الذاكرة" فيما يعانى المجتمع التركى عموما فى ظل نظام رجب اردوغان من اعراض فقدان الذاكرة.
واليف شفق التى ذاع صيتها الأدبى بشدة بعد عملها الإبداعى "قواعد العشق الأربعون" تقول ان التيار الحاكم فى تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان يعمد لاستخدام كلمات وتعبيرات غامضة او مبهمة مثل "إهانة الشخصية التركية" لتكميم أفواه المبدعين وقمع حرية التعبير .
كما تشير هذه المبدعة التركية التى تعيش فى بريطانيا حاليا لمسألة هامة وهى اقتناص عبارات او كلمات فى الأعمال الإبداعية والخروج بها من سياقاتها فى هذه الأعمال لمحاكمة المبدعين موضحة ان ذلك ماحدث معها عندما قام الادعاء باقتناص كلمات وردت على السنة شخصيات ارمينية فى روايتها "لقيطة إسطنبول" وخرج بها بعيدا عن سياقات الرواية لاستخدامها كدليل اتهام فى المحكمة بينما كان من الطبيعى ان يدافع محاميها عن "الخيال الإبداعي" ليتحول المشهد داخل المحكمة الى "مشهد سريالي" على حد وصفها.
ووسط تظاهرات غاضبة للجماعات المتشددة التى يرعاها النظام الأردوغانى تعرضت اليف شفق للعديد من مظاهر الترويع من بينها "البصق على صورها" غير انها تستلهم فى المقابل كمبدعة روح الصمود من مواطنيها الذين يقفون الى جانب حرية الابداع والتعبير ويستنكرون النزعة الظلامية واستهداف أصحاب الكلمة الحرة.
ولعل ما تعرضت له اليف شفق يعيد للأذهان ماتعرض له الأديب النوبلى التركى اورهان باموق من ضغوط وملاحقات فى بلاده بعد ان اعلن بضمير المثقف وشجاعة المبدع ان "مليون ارمنى و30 الف كردى قد قتلوا على هذه الأرض ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك" فيما تعرض لملاحقات قضائية فى بلاده بعد اتهامه "بإهانة الهوية التركية".
والأمر قد لا يكون بعيدا عن شعور باموق باشكالية الهوية فى بلاده التى تتجه فى ظل نظام رجب طيب أردوغان "لأوهام العثمانية الجديدة" وتبتعد "بطابعها السلطانى الأردوغانى" عن الديمقراطية وتخاصم حرية الكلمة ويدرك اورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 2006 حدة إشكالية الهوية فى بلاده كما أنه يستشعر "مناخ الخوف" الذى أشاعه نظام رجب طيب أردوغان.
وتتفق اليف شفق مع النوبلى أورهان باموق فى التنديد بدعم نظام أردوغان للجماعات الظلامية وممارساته لتحويل تركيا الى تربة خصبة لأفكار التطرف فيما باتت الثقافة الرسمية السائدة الآن فى تركيا الأردوغانية مزيجا من السلطوية الشمولية والرجعية الظلامية والتمييز ضد النساء والتعصب بكل صوره وهى ثقافة ترى اليف شفق بأنها لا يمكن أن تؤهل تركيا لتحقيق حلمها فى الانضمام للاتحاد الأوروبى.
ومن المثير للتأمل أن "تركيا أردوغان" التى تعانى من اشكاليات تتعلق بالهوية واستقطابات حادة حول تصورات أساسية لأنماط الحياة والقيم بما يشكل أساسا خطرا لانقسامات مجتمعية واحتمالات انفصالية تريد تصدير هذه الإشكاليات للدول العربية بما يخدم ايديولوجية هذا النظام وأوهامه المتعلقة "بالعثمانية الجديدة".
ورغم أن "الثقافة الذكورية المتعصبة" تتحكم فى وسائل الإعلام والمنابر الثقافية التركية فإن إليف شفق ترى أن النساء فى بلادها هن "حارسات الذاكرة الجمعية لتركيا كما أن المرأة هى صاحبة النصيب الأكبر فى إثراء تقاليد الحكى الشفاهى والسرد الشعبى.
وتؤكد أن المشهد الثقافى والإعلامى والأكاديمى فى تركيا ازداد سوءا منذ المحاولة الانقلابية فى عام 2016، حيث جرى إغلاق أكثر من 160 منفذا إعلاميا ووجد أكثر من 150 صحفيا أنفسهم فى السجون وطرد أكثر من أربعة آلاف أكاديمى من الجامعات ومضى نظام الحكم الأردوغانى فى "حملات تطهير تضمنت وضع أسماء مثقفين وصحفيين فى القوائم السوداء ومصادرة جوازات سفرهم".
وفى هذه الأجواء الخانقة من الطبيعى أن تزدهر ظاهرة "الرقابة الذاتية" فى الصحف ووسائل الإعلام والمنابر الثقافية وأن تتقلص مساحة النقاش العام فى البلاد فيما تلاحظ إليف شفق اتساع نطاق ظاهرة "زواج الأطفال" كثمرة مريرة من ثمار الأفكار الظلامية التى يرعاها نظام أردوغان فى تركيا وامتدت ممارسات "غسل الأدمغة" لتشمل تغيير المناهج التعليمية وبصورة لم تعرفها تركيا من قبل.