نادى المنادى فى بلاد مصر: «لا يركب النصارى خيولاً، ولا يلبسون شدودا حمراء، ولا طواقى جوخ حمراء ولا مراكيب، وإنما يلبسون شدودا زرقاء طول الواحد عشرون ذراعا».
كان هذا النداء يوم 26 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1649 حسب الدكتور موسى موسى نصر فى كتابه «صفحات مطوية من تاريخ مصر العثمانية» عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة»، ويذكره فى سياق مناقشته لوضع «أهل الذمة» أثناء الدولة العثمانية، التى احتلت مصر عام 1517، أى أن الأمر الذى نادى به المنادى جاء بعد مائة واثنين وثلاثين عاما من بداية هذا الاحتلال، الذى كان كابوسا على مصر.
كانت الدولة العثمانية وسلطات الحكم فى مصر، وفقا لتأكيد «نصر»: «تصدر بين الحين والآخر أوامرها بأن يلتزم أهل الذمة بتلك القيود التى فرضت عليهم منذ الفتح الإسلامى وورد ذكرها فى كتب الحنفية، حيث جاء: «ويميز الذمى فى زيه ومركبه وسرجه، ولا يركب خيلا ولا يعمل بسلاح ولا أن يترك يركب إلا لضرورة، وحينئذ ينزل فى المجامع، ولا يلبس ما يخص أهل العلم والزهد والشرف، وتميز أنثاه فى الطريق والحمام، ويجعل على داره علامة لكيلا يستغفر له، ولا يبدأ بسلام، ويضيق عليه الطريق»، ويذكر «نصر»، أنه يتضح مما سبق أنه كان على أهل الذمة من الناحية النظرية، الالتزام ببعض القيود فى الملابس ومظاهر حياتهم اليومية، وتمثلت قيود الملابس فى أنه على النصارى لبس الأسود أو الأزرق، وشد الزنار حول أوساطهم فوق الثياب، بينما تعين على اليهود اللون الأصفر، وتحدد اللون الأحمر لفرقة السامرة، أما نساء أهل الذمة فقد ألزمن بقيود الألوان فى ملابسهن، ففرض على المرأة المسيحية أن تشد الزنار فوق ثيابها، ومن تحت الأزرار، كما فرض على المرأة الذمية أن تنتعل خفين من لونين متباينين لتميزها عن المرأة المسلمة.
يؤكد «نصر»، أن ذلك التمييز بين الناس تبعا لأديانهم كان أمر ضروريا فى ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، وكانت الملابس المتميزة هى الوسيلة الوحيدة لمعرفة دين كل من يرتديها، ويضيف «نصر»: «مما يستفاد مما أوردته بعض المصادر المعاصرة أن أهل الذمة حرم عليهم دخول الحمامات العامة، دون أن يميزوا أنفسهم بصليب من الحديد أو الرصاص أو النحاس فى رقابهم لتميزهم عن المسلمين، كما حرم عليهم ركوب الخيل إلا أنه أجيز لهم ركوب البغال والحمير بالأكف عرضا، أى من ناحية واحدة، كذلك حرم عليهم حمل السلاح والتقلد بالسيوف، ولم يكن يسمح للذميين باتخاذ خدم من المسلمين، إذ يعتبر ذلك إهانة للإسلام وأهله».
يتناول هذه القضية كتاب «تاريخ يهود مصر فى الفترة العثمانية 1517 - 1914»، تحرير «يعقوب لاندوا» ترجمة: «جمال أحمد الرفاعى وأحمد عبداللطيف حماد»، مراجعة: محمد خليفة حسن، «المشروع القومى للترجمة- المجلس الأعلى للثقافة»، قائلا: «كان اختلاف الأقليات الدينية عن الغالبية الإسلامية فى الملبس، وبخاصة غطاء الرأس، سمة من سمات النظرة الإسلامية التقليدية لوضع «أهل الذمة»، وطبق هذا المبدأ الإسلامى فى كافة أنحاء الإمبراطورية العثمانية».
يؤكد «لاندو» أن لوائح الملبس لم تكن موحدة وواضحة، وكانت متروكة لمبادرات الباشوات والحكام فى مصر أكثر منها لسياسة السلطة المركزية فى إستانبول، ويعطى أمثلة على ذلك قائلا: «فى عام 1580 أصدر الحاكم خادم حسن باشا أمرا يرتدى اليهود بموجبه قبعات مخروطية «طراطير» حمراء، ويرتدى المسيحيون قبعات سوداء «برانيط»، بدلا من العمائم الصفراء لليهود والزرقاء للمسيحيين، التى كانت متبعة حتى ذلك الوقت، وبعد ذلك قام حاكم آخر وهو الشريف محمد باشا «1596 - 1598» بتغيير لون عمة اليهود من اللون الأحمر إلى الأسود، واهتم هذا الباشا اهتماما خاصا بشؤون الملبس، حيث كان شريفا، فأمر بأن يضع «الأشراف» عمائم خضراء وكانوا قبله يكتفون بربط شريط أخضر على العمة.
يؤكد «نصر»، أن من القيود التى فرضت على أهل الذمة أيضا فى العصر العثمانى، منع الأقباط من السير فى الجنازات ودفن موتاهم إلا بعد الحصول على إذن من الباشا العثمانى، فحين توفى البابا «متاوس الرابع» وهو البطريرك 102 فى عام 1675 اجتمع سائر الكهنة الأقباط فى يوم جنازته ليطلبوا الإذن من الباشا بدفنه، فسمح لهم بعد أن أخذ منهم أموالاً كثيرة.
ذات يوم