رغم أنهن يعجزن عن رؤية النور، فإنهن بثَثْن فى نفوس الآخرين الأمل، بعد أن داعبت أناملهن الآلات الموسيقية، دون قراءة المدونة الموسيقية، أو رؤية تعليمات المايسترو لاتباعها.
هذا الإحساس سيصلك عندما تستمع لعزف فرقة «النور والأمل»، وهى أول أوركسترا للعازفات الكفيفات فى مصر، وتضم 38 عازفة، تتراوح أعمارهن بين 15 و40 عامًا.
التقت «اليوم السابع» آمال فكرى، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية النور والأمل، مسؤولة الفرقة الموسيقية، التى أكدت أن الجمعية أهلية وغير هادفة للربح، وتأسست عام 1954، وعضواتها وإدارتها تتكون من سيدات متطوعات، وهدفها الرئيسى هو منح الفتيات والسيدات الكفيفات حقوقهن، وذلك بتوفير التعليم المجانى بمدرسة النور والأمل، والإقامة الداخلية، وبرامج تعلم القراءة بطريقة «برايل»، ومحو الأمية لهن، بالإضافة إلى التأهيل المهنى.
وقالت أمال فكرى نائب رئيس مجلس إدارة جمعية «النور والأمل»: إنه يتم اكتشاف المواهب الموسيقية للعازفات بشكل مبكر، من خلال إجراء اختبارات دورية للطالبات الكفيفات اللائى يدرسن فى المدرسة التابعة للجمعية، وبعدها تم تأسيس أوركسترا لـ«النور والأمل»، التى تتبع الجمعية فى عام 1961، بحيث تدرس طالبات معهد الموسيقى فى الوقت نفسه المواد المدرسية المقررة فى مدارس التعليم العام بمراحلها المختلفة، أى أنهن يجمعن منذ نعومة أظفارهن بين دراسة مزدوجة، مدرسة النور والأمل صباحًا، ومعهد موسيقى النور والأمل مساء.
وانبثق عن المعهد الموسيقى أوركسترا النور والأمل، الذى يعد فريدًا من نوعه فى العالم، حيث إنه مكون بالكامل من مكفوفى البصر، الذين يعزفون الموسيقى الكلاسيكية بشقيها، الغربى والشرقى.
وهنا تحكى العازفات لـ«اليوم السابع» رحلتهن التى خرجن بها من هزيمة ظلام مجتمعهن، قابضات على الآلات كما يقبضن على أحلامهن.
شيماء.. عازفة بدرجة مدرسة لغة إنجليزية
شيماء يحيى، 32 عامًا، تحمل عينين جميلتين، لكن لا ترى بهما، بسببهما تأخرت معرفة أهلها بإصابتها فى العام السابع، ودخلت شيماء أرض الجمعية فى أيامها الأولى.. سمعت صوت ألحان يدوى فى فلكها أكثر من مرة، ظلت تنزل مرة تلو الأخرى، حتى عرفت طريق فريق الأوركسترا، الذى أصبحت واحدة من أهم عازفاته لآلة الكمان، ومنزلها كانت ترن به ألحان أم كلثوم وعبدالحليم، ما شجعها على الالتحاق بالفريق.
شيماء خريجة الألسن، وتدرّس الإنجليزية لفتيات المعهد الصغيرات، وقالت: «عزفى بآل الكمان بينططنى من جمال اللحن، وأعشق رياض السنباطى، بحس إن كل مؤلف ياخدنى معاه فى سكته، ومعظم الشغل اللى بلعبه بحبه، وجذبتنى ألحان الرقصات الهندية حين زرت الهند مع الفريق، ومع الكمان بحس إنه شبه اليوجا عند المبصرين، بسرح فيها وببقى طايرة فى السما.. صوت الكمان بيحاكى النفس البشرية، بيحسسنى إنى بسمع كل الكائنات، ومسكة الآلة عجبتنى جدًا، تقدرى تحركى جسمك كله معاها».
وتحلم شيماء بأن تلقى الأوركسترا بالداخل نفس ما تلاقيه من تقدير خارج مصر، وأن يساعد الفريق مصر اقتصاديًا «ليه مش موجودين فى إعلانات تجذب السياح؟ خاصة أن الموسيقى تخاطب الوجدان وتتعدى اللغات»، وتطالب بالاهتمام من وزارات مثل وزارتى الثقافة والشباب: «ليه ما نعملش حفلات لتحسين الذوق العام؟»، وتتمنى استكمال دراستها العليا بالخارج، كما تحلم بترجمة مؤلفات عربية للإنجليزية والفرنسية.
لبنى أنور.. الأم الكفيفة العازفة
تقول لبنى: دخلت المعهد منذ 13 عامًا، ولحبى للموسيقى بدأت أعزف على أكثر من آلة، حتى ارتبطت بآلة «الترمبون»، ووصلت فيها لمستوى عالمى، جعلنى واحدة من فريق الأوركسترا فى سن صغيرة، ومنه التحقت بكلية الآداب، قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس، وتزوجت بعدها، ولدىّ 3 أولاد.
لم أستسلم للظلام، بل أشعر أنى أعيش فى عالم ملئ بالنور، هو الموسيقى وزوجى وأولادى، وهم بالنسبة لى «نور عنيا»، وبعد زواجى لم أشعر بأنها ستكون نهايتى مع الموسيقى، بل استكملت بعد زواجى حتى الآن، وأسافر كل الحفلات الخارجية، و«أولادى فخورين بيا، وبيشجعونى دايمًا، ونفسهم يتعلموها منى».
وأضافت لبنى: «الموسيقى بالنسبة لى هى حياتى، لأنى بحس إنى ليا قيمة بيها، حتى لما اتجوزت وخدت أجازة الوضع، كنت بحس إنى لازم أرجع لكيانى، بحس إنى طول ما أنا مواظبة على البروفات وبلعب موسيقى معنوياتى بتبقى مرتفعة، وبحس إنى عايشة، لأن داخل كل إنسان موهبة لازم يكتشفها ويعرفها ويكبرها، وأنا بحس إن زى ما ربنا خد منى بصرى إدانى موهبة ممكن غيرى يعيش سنين علشان يحاول يتعلمها».
وتحلم «لبنى» بشهرة الفرقة داخليًا فى مصر، مثلما حققت نجاحها خارجيًا، مضيفة: «إحنا مش أقل من لاعيبة الكورة، والناس لازم تفهم ده وتدعمنا وتشجعنا وتهتم بينا، لأن ده هيفرق فى معنوياتنا».
ميرفت إمبابى.. خريجة الألسن بامتياز
من إحدى حجرات الجمعية، تنساب موسيقى الأوركسترا، وتتمنى «ميرفت»، 26 سنة، أن تحجز مقعدًا فى المستقبل به، تكبر وتكون جزءًا من الفريق، فيصبح الفلوت آلتها «جت من عند ربنا».
وتقول: «كان حلمى من وأنا صغيرة أكون مترجمة»، وكنت أذهب يوميًا إلى كلية الألسن أتلقى محاضراتها، ويوم الأحد والثلاثاء أحضر بروفات الأوركسترا، وقد يستغرق حفظى قطعة موسيقية ساعة، وفى أحيان أخرى أسبوعًا، فيما أخصص وقتى يومى الاثنين والأربعاء من أجل حضور أوركسترا الأطفال لمساعدتهن فى بداية طريقهن، «لازم يبقى فى حد كبير يسند معاهم».
وتكمل: «دخلت آلة الفلوت وأنا فى الصف الثالث الابتدائى، وهى شبيهة للناى، وبدأت أتعلمها من الموهبة اللى عندى بأنى إزاى أنفخ عليها، وأطلع صوت، ومع الوقت دخلت الأوركسترا من 2006، وحضرت حفلات فى مصر وفى أستراليا واليونان وفرنسا وسويسرا وألمانيا واليونان».
وعن حلمها قالت: «عندى أمل الفرقة تكبر ونشتهر، والرئيس عبدالفتاح السيسى يكرمنا، لأن ده هيفرق فى معنوياتنا جدًا، ونفسى أشتغل كول سنتر إنجليزى، بحيث تكون وظيفة بديلة للترجمة ولتمكنى الجيد من اللغة، خاصة أننى تخرجت بتقدير امتياز».
مروة.. تعانى من تصنيفها مواطنة درجة ثانية
بدأت مروة سليمان العزف فى «أوركسترا النونو»، وهى بالصف الثالث الابتدائى، وتدربت على مبادئ الآلة والقطع الموسيقية القصيرة، وبالتدريج انضمت إلى «أوركسترا صغير»، صعودًا إلى أوركسترا النور والأمل، وبالتوازى مع دراسة الموسيقى، كانت تدرس بالمدرسة لكن بطريقة «برايل».
«المجتمع ليس لديه ثقافة عن الشخص الكفيف»، تعانى مروة وأصدقاؤها من المعاملة «كمواطن من الدرجة الثانية»، تشكو عدم تصديق المجتمع لهن، «أحد العازفين بالكونسرفتوار لم يصدق بأن الكفيف يستطيع العزف بالأوركسترا»، يمتد هذا خارج إطار الموسيقى، وتحكى أن صديقًا كفيفًا اختار «كيفية استخدام المكفوفين لشبكات التواصل الاجتماعى»، موضوعًا لتحضير دراسات عليا بكلية الإعلام، لكن الدكتور رد عليه: «إذا كان أنا مبستخدمش النت، الكفيف هيستخدمه إزاى؟».
هبة.. الموسيقى هى شبكة التواصل مع العالم
الموضوع ليس مختلفًا بالنسبة لـ«هبة» عن صديقتها فى الفرقة، فهى ترى أن الموسيقى بالنسبة لها هى الوسيلة التى تتواصل بها مع العالم، سواء كانوا أكفاء أو مبصرين، لا تعبأ بالكلمات التى تقال حولهن «الكلام زمان كان بيزعلنى»، وكلما خفتت طاقتها، ولم تتحمل ضغط الدراسة مع الموسيقى، يسندها أهلها بالتشجيع، وتعيد تنظيم وقتها، ثم تذوب كل الأعباء مع الموسيقى.
خاضت «هبة» تجارب كثيرة فى الأوركسترا، وخلال سفرها إلى الخارج، ومن أبرز المواقف التى لا تغيب عن ذاكرتها عندما كانت فى إحدى الحفلات التى كانت فى فرنسا، حيث عزفن مع فرقة فرنسية من المبصرات، وبجوارها كانت تجلس عازفة تقرأ النوتة، وتنتبه لإشارات المايسترو، بينما هن يعزفن «على الغائب»، وفى حالة انسجام، وتعتبر «هبة» أنها التجربة الأفضل فى حياتها، إذ أثبتت أنه يمكن دمج الأكفاء فى المجتمع، دون الشعور بالاختلاف.