غافل أحد جنود المماليك وزميل له حرس معسكرهما يوما، وجاءا إلى العثمانيين وأخبراهم عزم السلطان طومان باى بالقيام بهجوم مفاجئ عليهم، حسب ما يذكره الدكتور أحمد فؤاد متولى فى كتابه «الفتح العثمانى للشام ومصر» عن «الزهراء للإعلام العربى- القاهرة».
أقدم الجنديان على هذه الخيانة يوم 27 يناير عام 1517 طبقا لتأكيد متولى، أى بعد خمسة أيام من هزيمة «طومان باى» أمام العثمانيين فى موقعة «الريدانية» بالقرب من العباسية يوم 22 يناير، وفى اليوم التالى لهذه الهزيمة، وطبقا للدكتور «عماد أبوغازى» فى كتابه «طومان باى-السلطان الشهيد» عن «دار ميريت- القاهرة»: «دخل العثمانيون القاهرة، وخطب لسليم فى المساجد إيذانا بسقوط دولة المماليك، وأضحت القاهرة مدينة مفتوحة لمدة ثلاثة أيام بلياليها، يفعل العثمانيون ماشاءوا، وينقل أبوغازى عن مؤرخ عثمانى «جلال زادة قوجة نشانجى» قوله: «كان يوم القيامة حقا يوم يفر المرء من أخيه»، كما ينقل «متولى» عن رحالة أوروبى نقل الحدث عن بعض شهوده المعاصرين: «كان الرجال ملقون أكواما الواحد فوق الآخر، والدماء تجرى فى الشوارع أنهارا، وصب سليم غضبه على عامة الشعب وأمر بحرق بعض المنازل».
وفيما كان «سليم» يرتكب هذه الوحشية، كان «طومان باى» يعد عدته للهجوم على العثمانيين، بالرغم من هزيمته فى «الريدانية»، وفراره «راجع ذات يوم 22 يناير 2018»، غير أن الجندى المملوكى وزميليه اللذين فرا من معسكرهما إلى معسكر العثمانيين كشفا حقيقة ما ينتويه «طومان باى»، ويذكر «متولى» أن المعسكر العثمانى كان فى جزيرة بولاق «الجزيرة الوسطانية»، «وهى التى يقع فيها حاليا حى الزمالك»، ويضيف: «تحقق صدق كلام هذين الخائنين، فقد دخل طومان باى ومعه حوالى سبعة آلاف جندى من المماليك مدينة القاهرة، فى ليلة الأربعاء 28 يناير «مثل هذا اليوم» عام 1517، وسدوا مداخل الطرق ومخارجها بالمتاريس، وحفروا الخنادق، وقاموا بقتل كثير من الجنود العثمانيين الذين صادفوهم».
يؤكد «متولى»: «اشتد القتال ثلاثة أيام، فقتل من الطرفين خلق كثير، فركب السلطان بنفسه فى اليوم الثالث، وتم هدم البيوت والأبنية التى كانت المماليك الجراكسة تحصنوا بها، والمقاتلون من ورائها، وامتد القتال إلى آخر النهار ثم إلى آخر الليل ولم ينقطع ساعة، ونجح طومان باى نجاحا مؤقتا فى قتاله داخل القاهرة، ولم يستطع أن يستمر فى القتال رغم ما أحرزه، نظرا لانفضاض الجراكسة من حوله، فولى هاربا إلى «مصر القديمة»، وينقل «أبوغازى» عن «ابن إياس» حقائق أخرى قائلا: «نجح طومان باى وجنوده فى الاستيلاء على القاهرة، بعد أن انضم الشعب إليهم فى المعركة، ويستمر طومان باى مسيطرا على المدينة لعدة أيام، حتى إن الخطبة عادت باسمه يوم الجمعة 7 محرم بعد أن كانت الخطبة لسليم فى الجمعة السابقة».
لم يدم هذا الانتصار سريعا، وحسب أبوغازى: «سرعان ما استعاد العثمانيون سيطرتهم على المدينة بفضل تفوق أسلحتهم النارية، عندما نجحوا فى اعتلاء مآذن بعض المساجد وأسطح بعض المنازل، وأخذوا فى ضرب المماليك والمصريين بالرصاص من أعلى، فنجحوا فى القضاء على المقاومة فى القاهرة، واستعادوا سيطرتهم عليها بعد أربعة أيام وانتقموا من أهلها أبشع انتقام»، ويذكر «متولى»: «قتل فى هذه المعركة من الجراكسة وأهل مصر عالم عظيم، وأسر من الجراكسة 800 رجل، فأحضروا عند السلطان برميلة «ميدان الرميلة قرب القلعة»، فأمر بهم وضربت أعناقهم عن آخرهم وامتلأت أسواق مصر وزقاقها بالجثث والجيف بحيث لا يمكن العبور منها، ويحكى أن عدد القتلى قد بلغ 60 ألفا، وأمر السلطان بإحراق البيوت التى تحصن فيها الجراكسة، فاحترق جمع كبير بهذا الطريق، ثم عين السلطان جمعا من العسكر المنصور لمحافظة مصر، فرجع إلى «الجزيرة الوسطانية»، وأمر بإلقاء الجيف فى النيل لئلا يفسد الهواء».
استبشر «سليم» بما تم له من انتصارات حتى هذه اللحظة، فكتب رسالة عن هذه المعركة إلى أمير مدينة دمشق وقاضى القضاة بها، ويؤكد «متولى» أن أربعة من الهجانة أوصلوها، وقام شمس الدين الحلبى «دوادار السلطان» بترجمتها عن اللغة التركية إلى العربية ثم قرأها على الناس، وقال فيها: «فى هذه الثلاثة أيام يستمر القتال من الصبح إلى العشاء وبعون الله تعالى قتلنا جميع الجراكسة، ومن انضم إليهم من العربان، وجعلنا دماءهم مسفوحة، وأبدانهم مطروحة، ونهب عساكرنا قماشهم وأثاثهم وديارهم وأموالهم وبركهم وبرقهم ثم صارت أبدانهم للهوام، وأما «طومان باى» سلطانهم، فما عرفنا هو مات أم بالحياة، وأطاعتنا بعون الله جميع العربان والمشايخ والأكابر بمصر وأعمالها».
يؤكد «أبوغازى» أن طومان باى، بعد هذه المعركة، فر إلى البهنسا فى الصعيد، ومن هناك بدأ تنظيم صفوفه، لخوض معركة أخرى ضد العثمانيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة