ألقى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، كلمة فى الحفل الذى أقامته جامعة بولونيا الإيطالية، أقدم جامعات أوروبا، اليوم الاثنين، لتكريمه ومنحه وسام "السجل الأكبر" أرفع وسام تقدمه جهة أكاديمية للشخصيات البارزة والمؤثرة فى العالم.
جانب من حفل تكريم شيخ الازهر بجامعة بولونيا الإيطالية
وأوضح فضيلته أن هذا التكريم له فى نفسه تقدير خاص دون سائر الدَّعَوات التى يتلقَّاها من مختلفِ الهيئات والمؤسَّسات الدِّينيَّة والسياسية والاجتماعية، مضيفا: "دعوتكم دعوةٌ جامعية علمية، وأنا رجل جامعى منذ سبعينات القرن الماضى، أى منذ نصف قرن تقريبا، ولا يزال شعورى حتى هذه اللحظة دافقا بأنى خُلِقت للعلم والتَّعلُّم والتعليم".
جانب من حفل تكريم شيخ الازهر بجامعة بولونيا الإيطالية
وأشار الإمام الأكبر إلى أن المعرفة هى أعز ما يطلب، وهى أول واجب على العقلاء، وهى تراث الأنبياء، كما قال نبى الإسلام: ((إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ))؛ وهى طريق المؤمن إلى الجنة، وقد أوجبها نبى الإسلام على أتباعه رجالا ونساء وأمرهم بطلبه حتى لو كان العلم فى أقصى الأرض، قال: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ)).
ولفت فضيلته إلى أنه "منذُ ألف عام - بل تزيد - قامت فى مصر، البلد الوحيد الذى يمتدُّ فى فضاء القارَّتين العريقتين: آسيا وإفريقيا، منارةٌ سامقةٌ، تبعث بأضواء المعرفة والعلم إلى أطراف العالَم كلِّه... إنَّه الأزهر الشريف الذى بفضله أقفُ يبينكُم اليوم، والذى أعدُّ هذا التكريم المقدور والمشكور، من جامعتكم التى يقترب عمرها كثيرا من عمر الأزهر الشريف، وهذا التكريم موجه فى الحقيقة إلى الأزهر وإلى كل من تخرج منه على مدى ألفيته من علماء وأساتذة وطلاب، حتى وإن كان تكريم جامعتكم فى ظاهر الأمر موجها إلى أحد رجاله الخادمين للعلم والعلماء فيه.
وفيما يلى النص الكامل لكلمة فضيلة الإمام الأكبر:
بســـم الله الرحمــن الرحيــم
ــــــــــــ
السيد البروفسور فرانشيسكو أوبِرتِينِى رئيس جامعة بولونيا
السيد البروفسور ألبيرتو مِيلُّونى رئيس مؤسسة البحوث الدينية فى بولونيا
إخوانى وزملائى عمداء الكليات وأساتذة الجامعة
بناتى وأبنائى الطالبات والطلبة
الســـلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛
وبعد:
لقد تلَّقيتُ دعوةَ جامعتِكُم العريقة –لتكريمي- بكلِّ إعزازٍ واحترامٍ؛ وكان لها فى نفسى تقدير خاص دون سائر الدَّعَوات التى أتلقَّاها من مختلفِ الهيئات والمؤسَّسات الدِّينيَّة والسياسية والاجتماعية، فدعوتكم دعوةٌ جامعية علمية، وأنا رجل جامعى منذ سبعينات القرن الماضى، أى منذ نصف قرن تقريبا، ولا يزال شعورى حتى هذه اللحظة دافقا بأنى خُلِقت للعلم والتَّعلُّم والتعليم، ورغم أن المقادير انتزعتنى انتزاعًا من قاعات البحث والدرس والنقاش والمناظرة، إلَّا أنَّنى دائم الحنين إلى هذا الفضاء المتعالى المقدس، المفعَمِ بعبير المعرفة والحكمة، وعندما تلقيت دعوتكم الكريمة سارعت إلى تلبيتها، لأنه يسعدنى حقًا ويمس شغاف قلبى أن ألتقى بكم أيها السادة العلماء والشباب الباحثون وطلاب العلم، فى رحاب هذا الصرح العلمى العتيق، وأن أتنسم عطر البحث العلمى فى أجوائكم، وأرى الشوق إلى المعرفة فى عيونكم، حتى إنى لأغبطكم - عَلِم الله - لما أنتم فيه، ويزداد حنينى إلى أيام التبتل فى محراب العلم، والتنقل فى أروقة الجامعة، والتمتع بتذوق نص تراثى، أو باكتشاف فكرةٍ جديدة، أو بتوجيه باحثٍ شابٍّ إلى أقرَبِ الطرق إلى بغيته المنشودة.
جانب من حفل تكريم شيخ الازهر بجامعة بولونيا الإيطالية
يعرف شعورى هذا جيدا، مَن اتخذ مهنة التعليم رسالة حياة عن قصد واختيار، وهى رسالة الأنبياء من قبل، كما قال نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت مُعلِّمًا"، ومَن ذاق حلاوة اكتشاف الحقيقة بعدَ عَناءِ البحث وطُول التأمل وصدق الطلب؛ وقد كان شيخنا محمد الغزالى - رحمه الله - كثيرًا ما يردد: "سُئِلَ حكيم: ما السعادة؟ فقال: هى فى حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحا".
ولا أكتمكم سرا إذا ما قلت لكم أن أسعد الأوقات عندى هى الجلوس الهادئ إلى صفحات كتابٍ، يُعبِّر ذلك بيت شاعر العربية أبى الطيب المتنبي- رحمه الله -:
أعزُّ مكانٍ فى الدُّنا سرجُ سابحٍ * وخيرُ جليسٍ فى الزمانِ كتابُ
إن المعرفة هى أعز ما يطلب، وهى أول واجب على العقلاء، وهى تراث الأنبياء، كما قال نبى الإسلام: ((إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ))؛ وهى طريق المؤمن إلى الجنة، وقد أوجبها نبى الإسلام على أتباعه رجالا ونساء وأمرهم بطلبه حتى لو كان العلم فى أقصى الأرض، قال: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ)).
أيها السادة الفضلاء:
فمنذُ ألف عام - بل تزيد - قامت فى مصر، البلد الوحيد الذى يمتدُّ فى فضاء القارَّتين العريقتين: آسيا وإفريقيا، منارةٌ سامقةٌ، تبعث بأضواء المعرفة والعلم إلى أطراف العالَم كلِّه... إنَّه الأزهر الشريف الذى بفضله أقفُ يبينكُم اليوم، والذى أعدُّ هذا التكريم المقدور والمشكور، من جامعتكم التى يقترب عمرها كثيرا من عمر الأزهر الشريف، هذا التكريم موجه فى الحقيقة إلى الأزهر وإلى كل من تخرج منه على مدى ألفيته من علماء وأساتذة وطلاب، حتى وإن كان تكريم جامعتكم فى ظاهر الأمر موجها إلى أحد رجاله الخادمين للعلم والعلماء فيه.
ليس الأزهر أيها السادة – كما تعلمون – مجرَّد معهد عريق أو جامعة عالميَّة، ربّما كانت هى الأقدم فى تاريخ الإنسانية من حيث تواصل عطائها دون توقف، منذ إنشائه حتى يوم الناس هذا. بل هو فى جوهرِه منهج علمى، وخطابٌ فكرى متمَيِّز، ورسالة سلام عالمى طريقها الحوار والتفاهم.
جانب من حفل تكريم شيخ الازهر بجامعة بولونيا الإيطالية
فالأزهر الشريف يحملُ مسؤوليَّة الجانب العِلمى والدعوى من رسالة الإسلام، خاتمة الرسالات الإلهية إلى البشر كافَّة، رسالة السّلام العالمى والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، والتحرُّر من الآصار والقيود التى تُثقِل كاهلَ البَشر، وتُؤمن بكلِّ ما أرسَلَ اللهُ من رسولٍ، وما أنزَلَ الله من كتاب؛ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وعلى مَدَى القُرون سلك الأزهر منهجا مقارَنا، يقوم على الفهم العميق للثقافة الإسلامية فى أطوارها المختلفة، ومَنابع الثقافةِ الإنسانيَّةِ بوجهٍ عامٍّ، من الفلسفةِ الشرقيَّة والغربيَّة، والآدابِ القديمةِ والمعاصرةِ؛ ليُزوِّد - قَدْرَ الإمكانِ – طلابه بما يُعينُهم على فهم الماضى والحاضر والقُدرة على استشراف المستقبل، والإسهام فى الفكر المتجدِّد على منهجٍ عِلمِيٍّة ثابتة.
جانب من حفل تكريم شيخ الازهر بجامعة بولونيا الإيطالية
ولئن سألتُمونى عن السِّمة المميِّزة للمنهجِ الأزهرى فى الدّرس العلمى فلَأقولَنَّ: إنَّه منهجُ متكامل يلبى مطالب المعرفة الدينية والدنيوية معا، ومن هنا تجاورت فى رحاب جامعة الأزهر كليات الإلهيات والحكمة القديمة والفلسفة الحديثة، مع كليات العلوم التجريبة والطب والهندسة والزراعة وغيرها، وقد بلغ من عالميته أنه يستقبل اليوم أكثر من خمسة وثلاثين ألف طالب وطالبة من أكثر من مئة دولة من أنحاء العالم، يطلبون العلم فى رحابه فى منهج معتدل لا إفراط فيه ولا تفريط
وإنِّى لأشعُرُ باعتزاز بالغ بالعلم حين دخلت محراب جامعتكم هذه فى قلب أوروبا، مستشعرا جلال الدور التاريخى الذى اضطلعت به جامعتكم ومثيلاتها فى تعليم أهل هذه القارة، وقد أزعم أننى على إلمام بما قدمته هذه الصروح العلمية التاريخية عبر العصور من عطاء علمى وثقافى متنوع، فمن منا لا يعرف اليوم -جهود هذه المنطقة فى خدمة الثقافة الإسلامية، ومن منا لا يعرف أن أول طبعة للقرآن الكريم فى الدنيا كلها خرجت من هذا الرحاب التى تمثل جامعتكم أحد أركانها الأصيلة، ففى عام: 1537م قامت عائلة باغانينى بطباعة المصحف، وقد احتفظ لنا دير الفرانسيسكان بالبندقية بنسخة فريدة وحيدة فى العالم.
وهل لنا أن ننسى جهود الأمير ليون كايتانى صاحب المشاريع الطموحة ومنها كتابه الفريد: حوليات الإسلام، وكذلك ميكال أمارى وأبحاثه العميقة عن صقلية التى لازالت تحتفظ بقيمتها العلمية حتى يومنا هذا، كما لا ننسى إنْيَتْسيو جويدى ومحاضراته فى الأدب العربى فى الجامعة المصرية فى 1908 – 1909م، وكذلك ابنه ميكلنجلو جويدى، وجوزيبى جَبريِيلى ومساهماته فى تاريخ العلوم عند العرب، وتدريس الطلبة المصريين المبتعثين لدراسة الفنون فى روما، وابنه فرانسيسكو جبرييلى الذى ترجم عيون الأدب العربى المعاصر إلى الإيطالية، وكارلو ألفونسو نلينو ومحاضراته أيضا فى الجامعة المصرية فى مطلع القرن العشرين فى الآداب العربية وتاريخ علم الفلك، وكان عضوا فى مجمع اللغة العربية فى القاهرة، وتطول القائمة لو رحت أعدد لكم أسماء العلماء الإيطاليين الذين حرَصوا فى القرن الماضى على إقامة جسور العلم بين هذا الثغر فى جنوب أوروبا وبين مصر التى هى أول ثغر فى شمال إفريقيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة