قال الدكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الفتوى صناعة ثقيلة لا يجيدها الا الراسخون فى العلم لأن لها شأن عظيم، وفضل عميم فى الإسلام، كما أنها ذات خطر كبير؛ لأنها إخبار عن الله عز وجل، أو عن رسوله ـ صلى الله عليه وسلـم ـ بأنه أحلَّ كذا، أو حرَّم كذا؛ لذا قال الأمام النووي: "قالوا: المفتى موقع عن الله تعالى"، فينبغى أن يُنْتَبه إلى أنه لا يجوز لكل أحدٍ أن يتصدر لهذا المقام الرفيع بغير علمٍ ودُرْبةٍ ودرايةٍ وخبرةٍ، ومعرفةٍ بأحوال الناس وأعرافهم والظروف المحيطة بهم؛ فقد قال الأمام القرافي: "فمهما تجدد فى العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور فى الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، ودون المقرر فى كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال فى الدِّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين".
وأضاف شومان، فى كلمته بمؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الافتاء والمنعقد تحت عنوان "التجديد فى الفتوى بين النظرية والتطبيق"، لا بد للمفتى أن يستشعر المسئولية الكبيرة الملقاة على عاتقه عند إصداره للفتوى؛ لما يترتب عليها من آثار خطيرة، فيقتضى ذلك أن يدرس الحالة المعروضة عليه أو المسألة محل النظر دراسة منهجية مؤصلة، لأنه إذا كان مجال الإفتاء مما لا تستغنى عنه الأمة، فإن ذلك لا يعنى أن يباح لكل إنسانٍ أن يفتى بالحل والحرمة كما يشاء، بل إن هناك جملة من الضوابط والمعايير ينبغى مراعاتها، منها معايير ينبغى مراعاتها قبل الإفتاء، ومعايير ينبغى مراعاتها فى أثناء التفكير والبحث والاجتهاد فى الحكم، وهناك مآلات مترتبة على الفتوى ينبغى أن يراعيها المفتى كذلك.
وتابع عباس شومان: "هناك معايير أخلاقية للفتوى ومنها التورع عن الإفتاء ما أمكن فليس التصدُّر للفتوى والفرح بها أمرًا واردًا عند أهل العلم المعتبرين؛ إذ أمر الفُتيا عظيم وخطرها جسيم، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أهل العلم أنهم كانوا يفرون منها، ويجعلون كلمة (لا أدري) حاضرة على ألسنتهم كأنها أحد أركان العلم، يقول ابن عباس - رضى الله عنهما: "إذا أغفل العالم لا أدرى أصيبت مقاتله"، وكانوا يخشون مع سعة علمهم وفقههم فى دين الله، أن يفتوا الناس خشية الزلل فى الفتوى، يقول عقبة بن مسلم: "صحبت عبد الله بن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأل فيقول: لا أدرى، ثم يلتفت إلى فيقول: تدرى ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا لهم إلى جهنم".
واستطرد الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف: كذلك من المعايير الأخلاقية للفتوى التجرد من الهوى والعصبية وهى من المعايير التى يجب أن يتحلى بها المفتى كذلك، أن يتجرد من الهوى والعصبية بشتى أنواعها؛ فاتباع الهوى يصد عن اتباع الحق، ويحجب صاحبه عن السداد والرشد، ويلبس الحق بالباطل. وإذا تمكن الهوى والعصبية من القلب؛ فإنه يقود صاحبه إلى أن يفتى بما تكون عاقبته إضلالًا وصدًّا عن سبيل الله، فيحلل الحرام ويحرم الحلال، طلبًا لشهرة مغرية، أو إرضاءً لشهوات العوام ورغباتهم، أو جريًا على هوى ذوى الملك والسلطان والجاه ابتغاء عرض رخيص من أعراض الحياة الدنيا، أما فى زماننا، فقد كثر من يفتى الناس بالباطل جهلًا وجرأة، وأسوأ منهم من يفتى اتباعًا لهوى نفسه أو عصبية لمذهب أو حزب أو غيرهما؛ فقد يخدع الهوى بعض المفتين فيتعلق بالخلاف الوارد فى المسألة، ويفتى بما يوافق هواه أو هوى مستفتيه، آخذًا بأى قول قيل فى المسألة ولو كان مطَّرحًا أو شاذًّا لا يعول عليه أو لا يعرف قائله، وربما تعلل هؤلاء بدعوى التيسير ورفع الحرج، وأن الخلاف رحمة، وأن من ابتُلى بما فيه الخلاف فليقلد من أجاز، ونحو ذلك مما يوقع الناس فى مخالفات شرعية، وهم يظنون أنها توسعة فقهية، ويغيب عن هؤلاء (الميسرين) المعاصرين أن تتبُّع الرخص يؤدى إلى الانخلاع من ربقة التكاليف الشرعية، كما يظهر لكل متأمل.
وشدد شومان، على أن هناك معايير مهنية للفتوى منها الأهلية العلمية للمفتى إذ يتصدر كثير من الناس للإفتاء دون أن تتحقق فيهم شروط المفتين، ظانين أن معرفة باب من العلم إحاطة بالعلم كله، ولذا يقع كثير من المتصدرين للفتوى أسرى للهوى وحظ النفس والعصبية بشتى أنواعها، ولا سيما إن لم يكونوا على دراية بما يترتب على الفتوى من أحكام ومآلات. متابعًا: "ولو استحضر المفتى أنه موقع عن الله تعالى ومخبر بشرعه عنه؛ لما تجرأ على مخالفة نص صحيح واضح إلى نص أو قول ضعيف، ولا تجاوز قولًا راجحًا عند الفقهاء إلى قول مرجوح تحت دعوى التيسير، فالتيسير له ضوابطه كذلك، ومن تلك المعايير ايضا فهم نفسية المستفتى، وأن تكون المسألة، مما يفيد النظر فيها أما المسائل التى تثير على الناس شرًّا، ويُقصد من وراء طرحها إثارة البلبلة والتلبيس على الناس، فهذا يحتاج إلى ذكاء من المفتى لمعرفته حتى لا يقع فى حبائل أصحاب الهوى وحيل المستفتين الذين يعمدون إلى أن يستخرجوا من الفتاوى ما لا يقول به مثله عادة، وما لا محل له زمانًا ومكانًا وأحداثًا.
وتابع شومان: "كذلك مراعاة أحوال الناس وعوائدهم إن المفتى إذا لم يكن عارفًا بزمانه وما يجرى فيه من أحداث، ربما ابتعث لمن يستفتيه من بطون الكتب ما لا يناسب أحوالهم وعوائدهم من الفتاوى والمعلوم أن الفتوى تختلف عن الحكم؛ إذ إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وحال الإنسان، خاصة إذا كان الحكم مبنيًّا على عرف البلد، ثم تغير العرف إلى عرف جديد لا يخالف النصوص الشرعية كألفاظ العقود والطلاق واليمين ونحوها، فإن تغير الزمان والمكان وحال الإنسان يحتاج إلى رجال متخصصين فضلًا عن كونهم أهل ورع وتقوى، يخشون الله وينصحون لعباد الله، ويسيرون فى دربهم على بصيرة واتباع لا على هوى وابتداع، وليس لمن قصر باعه وقل إطلاعه فى العلم، ولا من كانت بضاعته مزجاة، أن يتصدر لذلك أو يمارسه، وإلا أفسد أكثر مما يصلح، وأضل الناس بغير علم. كما أنه كلما كان النظر جماعيًّا وتمهل المفتى وتأنى وتثبت واستشار أهل الخبرة والاختصاص والنظر الصحيح؛ كان أوفق للحق؛ فإن يد الله مع الجماعة، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة