يقوم علم النفس الثقافى على دراسة دور الثقافة فى الحياة العقلية للكائنات، وهذا الدور بات ملحاً فى ظل تصاعد دور تكنولوجيا المعلومات فى حياتنا اليومية، فوسائل التواصل الاجتماعى تسيطر على حياتنا اليوم، وبالتالى هل ثقافة الإنترنت ستغير من طبائع الإنسان النفسية؟، هل الإنسان المتوحد نفسياً مع الآلة (موبايل أو جهاز لوحى) مريض نفسى أم يجارى عصره، وهل الآلة تخلق الآن عالم يندمج فيه الإنسان عقلياً ونفسياً؟
هنا نستحضر العديد من التعريفات لعلم النفس الثقافى فريجارد شويدير يرى "أن علم النفس الثقافى هو دراسة الطريقة التى تعبر بها التقاليد الثقافية والتطبيقات الاجتماعية وتتمحور حول ذهن الإنسان. ولكنه يشير كذلك إلى الاختلافات الاثنية فى الذهن والذات والمشاعر.
هنا نقف عند رؤية برتران تروادك فى كتابه علم النفس الثقافى، والذى طرح عبر عنوانه تساؤل: هل النمو المعرفى متعلق بالثقافة؟ وهو يبرهن على ذلك عبر صفحات الكتاب، لكنه يفرد رؤيته صفحات رؤيته لعلم النفس الثقافى ليكون علم نفس عام يدرس كافة الثقافات بما فيها، أو لا سيما، ثقافة الفرد خاصة.
هذا كله لا يبين أهمية هذا العلم ودوره وحاجتنا إليه، لكن صدرت مؤخراً فى القاهرة ترجمة لكتاب مايكل كول "علم النفس.. ماضيه ومستقبله" وهو من ترجمة كل من دكتور عادل مصطفى ودكتور كمال شاهين، الكتاب يرى أن على علم النفس الثقافى أن يتفاهم مع الواقع الذى يتعين على هذا العلم أن يتناوله فيجب أن نفهم الحياة العقلية للإنسان على أنها مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالأشياء التى يصنعها الإنسان فى العالم الذى نعيش فيه، إن الكائنات البشرية تعيش فى عالم من مصنوعات (منتجات) الإنسان: أدوات، وكلمات، ووتيرة أعمال (روتين)، وطقوس، وهى أشياء يتعامل معها فى نفس الوقت الذى هى فيه مستودعات للفكر والحكمة البشرية السابقة. مايكل كول يلخص رؤيته لهذا العلم على النحو التالى: المنتج المصنوع هو ذلك الجانب المادى الذى تم تعديله عبر تاريخ إدماجه فى عمل إنسانى هادف.
وتعد المنتجات بفضل التغييرات المحدثة فى عملية خلقها واستخدامها، أشياء فكرية (تصورية ومادية فى آن واحد معاً، لذا نراه يؤكد أن نمو العقل البشرى، هو تطور مشترك لنشاطات البشر ومنتجاتهم.
هنا لا بد وأن نقف عند ما ذكره المؤلف عن الذكاء والثقافة فبعد مرور فترة لا تزيد كثيراً عن عقدين من الزمان على تأسيس المختبرات النفسية وظهور السيكولوجيا العلمية فى العديد من الدول الأوروبية وفى الولايات المتحدة، أتى علماء النفس حافزَ قوى لإجراء أبحاث تتناول تلك الملكة الإنسانية المعقدة_ ملكة حل المشكلات. جاء ذلك الحافز من مصدر يبدو خارجاً عن المجتمع العلمي على الرغم من ارتباط عدد من علماء النفس البارزين به: فى أوائل القرن العشرين طلب من ألفرد بينيه وتيوفيل سيمون معالجة مشكلة اجتماعية عملية. فمع انتشار التعليم العام فى فرنسا، بدأت مشكلة الفشل الدراسى فى الظهور بشكل متزايد. كان بعض الأطفال يتعلمون بصورة أبطأ من الآخرين، على حين كان البعض الآخر ممن كانوا طبيعيين تماماً فى كل النواحى الأخرى عاجزين كلياً عن الاستفادة من التعليم المدرسى. طُلب من بينيه وزملائه أن يحاولوا العثور على طريقة للتعرف على الأطفال البطيئى التعليم فى مرحلة مبكرة من دراستهم.
فإذا أمكن التعرف على الأطفال البطيئى التعليم فى مرحلة مبكرة من دراستهم. فإذا أمكن التعرف عليهم أمكن تقديم تعليم خاص بهم، مما يتيح للأطفال الآخرين أن يتعلموا بصورة أكثر كفاءة. أفضى ذلك إلى ظهور اختبارات الذكاء التى وصف تاريخها مراراً بحيث لا يحتمل تكراره هنا. إلا أن إعطاء خطوط عامة للاستراتيجية الأساسية لهذا النوع من الأبحاث هو أمر ضرورى بوصفه خلفية تعيننا على أن نفهم لماذا تُعد الاستراتيجيات الثقافية المقارنة وسيلة إشكالية لاكتشاف كيف تؤثر الثقافة على نمو الذكاء.
بداية، قدم بينيه وسيمون تعريفاً للصفة التى كانوا يسعون إلى الكشف عنها: "يبدو لنا أنه توجد فى الذكاء ملكة أساسية يؤثر تغييرها أو غيابها تأثيراً بالغ الأهمية على الحياة العملية. هذه الملكة هى الحكم، أو ما نسميه الحس السليم، أو الحس العملى، أو المبادأة، أو ملكة التكيف مع الظروف. أن تجيد الحكم على الأمور، وتجيد الفهم، وتجدى الاستدلال وإعمال العقل_ تلك هى النشاطات الضرورية للذكاء"
كانت الخطوة التالية هى تحديد طريق الكشف عن هذه الصفة كان الأمر يبدو واضحاً: فحص مقدرة الأطفال على أداء تلك الأعمال الضرورية فى "الحياة العملية". لما كانت الحياة العملية بالنسبة للأطفال فى بداية القرن العشرين تعنى الحياة المدرسية، فقد قام بينيه وسيمون بملاحظة الفصول، ودراسة الكتب المقررة، والتحدث مع المدرسين، كما قاموا باستخدام حدسهم من أجل التوصل إلى فكرة ما عن أنواع المعرفة والمهارات المتعددة التى يتوقع أن يكتسبها الأطفال فى المدرسة. لم يكن من السهل وصف ما وجداه باختصار، كما يعرف كل من أتيح له أن ينظر إلى ما يجرى فى فصل مدرسى.
كانت هناك حاجة واضحة لفهم الرموز المكتوبة، مثل الأبجدية أو نظام الأعداد. عليه تم اختبار القدرة على التعرف على هذه الرموز. ولكن التعرف وحده لا يكفى، فكان على الأطفال أيضاً أن يستخدموا هذه الرموز من أجل تخزين واسترجاع كميات هائلة من المعلومات، وإعادة تنظيم هذه المعلومات حسب متطلبات اللحظة، واستخدام هذه المعلومات فى حل عدد هائل من المشكلات التى لم تصادفهم من قبل فى خبرتهم على الإطلاق. عليه تم اختبار قدرة الأطفال على تذكر وتأدية سلاسل من الحركات من أجل تعريف الكلمات، وقدرتهم على بناء مسلسل معقول من الحوادث من تسلسل مختلط من الصور، وقدرتهم على التعرف على العنصر الناقص فى الرسم، بالإضافة إلى الكثير من المكونات الأخرى من المسائل المدرسية.
كان من الواضح كذلك أن تعلم تطبيقات موغلة فى التخصص للمعرفة الأساسية الموجودة فى أنظمة الكتابة الأبجدية والرقمية يتطلب أن يتعلم التلاميذ التحكم فى سلوكهم ذاته. لم يكن مطلوباً من التلاميذ أن ينخرطوا فى "أعمال عقلية" موجهة إلى معالجة المعلومات فحسب، بل كان عليهم أيضاً أن يكتسبوا التحكم في انتباههم وتوجيهه لا على هواهم العابر، بل كما يهوي المعلم وكما يطلب النص.
كان واضحاً تماماً أن من المستحيل الوصول إلى عينة واحدة لكل أنواع التفكير التى تتطلبها المدرسة. ذلك أن ما يحدث فى كل فصل على حدة كان من الكثرة بحيث يجعل هذا المطلب غير ممكن عملياً. ليس هذا فحسب، بل كان واضحاً أيضاً أن المدرسة تتطلب قدرات مختلفة من الأطفال ذوى الأعمار المختلفة. أدرك بينيه وسيمون أن تقدير "الاستعداد الأساسى" لمثل هذا النطاق من المواد سوف يعتمد على ما تعلمه الطفل من المحتوى المحدد قبل أن يصل إلى المدرسة، إلا أنهم كانوا مؤمنين بأن معرفة قدرات الطفل الحالية سوف تكون مفيدة للمدرسين على أية حال.
قرر بينيه وسيمون تكوين عينة من المهام التى تشبه المهام الدراسية تتناسب مع كل سنة من سنوات التعليم، بدءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءً بأعلى مستويات التعليم المدرسي. كانا يودان أيضاً أن يُضمنا اختيارهما كل الأنشطة الجوهرية بحيث تكون الأعمال الموجودة في مستوى معين من الصعوبة حجر انتقال إلى أعمال المستوى الأعلى. إلا أن عدم وجود نظرية مستقرة للوظائف النفسية العليا جعلهما يعتمدان على مزيج من حسهما الخاص ومن تحليل منطقي لما يبدو أن الفصول المدرسية تتطلبه (مثال ذلك، يلزم أن تكون قادراً على تذكر ثلاثة أرقام عشوائية قبل أن تكون قادراً على تذكر أربعة، كما يلزم أن تكون لديك معرفة بالأبجدية قبل أن تكون لديك معرفة بالقراءة).
وقع اختيار بينيه وسيمون كذلك على استراتيجية مريحة حيث تركوا الأطفال أنفسهم يخبرونهما بمدى مناسبة العناصر التى اختيرت للاختبار. عليه كان بينيه وسيمون يبدآن بمجموعة ضخمة من الأسئلة الممكنة للاختبار ثم يفتشان عن تلك العناصر التي يستطيع نصف الأطفال في عمر معين أن يحلوها. كان الطفل الذي يستطيع أن يحل المشاكل/ المسائل المناسبة لعمره يعد طفلاً "متوسطاً". قام بينيه وسيمون بعد ذلك بتجميع العناصر التي ميزت بين الأطفال ذوى الأعمار المختلفة (فضلاً عن العناصر التي بدا أنها تمثل النشاطات المطلوبة في الفصول الدراسية) وبذلك توصلا إلى أول نموذج أصلي هام لاختبارات الذكاء الحديثة. تم بذل الكثير من الجهد، بطبيعة الحال، في بناء الاختبارات منذ تلك الجهود المبكرة، إلا أن الفكرة التي تقوم عليها ظلت كما هي إلى حد كبير: أخذ عينات من أنواع النشاطات التي تتطلبها الثقافة (ترد فى الممارسة العملية إلى ثقافة المدرسة). يعد الأطفال الذين اكتسبوا مقداراً أقل بكثير من المتوسط الخاص بالأطفال الذين في عمرهم أطفالاً في حاجة إلى مساعدة إضافية إذا ما أردنا لهم الوصول إلى المستوى الذي تتوقعه ثقافتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة