فى عالم عبثى مادته مواقع التواصل الاجتماعى، لا يستطيع أحد تفسير ما يحدث فى هذا العالم الافتراضى المشوش، حتى أننا لا نكاد نتفق على رأى أو تصور واحد حول الشخص الواحد أو قضية واحدة، فتداخلت المفاهيم واختلط المزيف بالحقيقى، واكتسب البعض شهرة مزيفة على حساب من هم أحق، وغابت ملكة التمييز بين الغث والسمين وسيطر التشويش على ذلك العالم الآخر من الواقع الذى أصبح فيه "الكيبورد" صاحب الكلمة العليا، واقتصرت علاقاتنا ومشاعرنا ومواقفنا وآرائنا على تلك المساحة الصغيرة من مواقع التواصل، كل ذلك ترجمه المخرج هانى عفيفى من خلال مسرحيته "تسجيل دخول" مستعينًا بمنهج "اللا معقول" أو "مسرح العبث" ليسخر من عبثية العالم الموازى ويجعل جمهور مسرح الهناجر فى مواجهة أنفسهم.
نشأ "مسرح العبث" على يد مجموعة من الشباب العبثيين فى أوروبا نتاج ظروف سياسية، إذ عانى الإنسان الأوروبى من الفردية، فرغم تقدمه العلمى إلا أنه يعانى من الانعزالية نتيجة لعدم قدرته على بناء علاقات إنسانية اجتماعية مع الآخرين، واتسم مسرحهم بالغموض وغياب العقدة الدرامية التقليدية وتمردوا على كل ما هو مألوف مسرحيًا، ولم يعد للزمان والمكان أهمية فى عروضهم، وأصبح الحوار غامضا مبهما فكل شخوص المسرحية تتحدث دون أن يتمكن أحدهم من فهم الآخر وغابت ثقة الشخصيات فى بعضها البعض، وذلك ما يفسر اختيار المخرج هانى عفيفى لذلك المنهج ليعكس الانعزالية التى نعيشها بفعل وسائل التواصل الاجتماعى التى حلت مكان الواقع المعاش.
لم يحدد "عفيفى" الزمان بشكل واضح رغم وجود ساعة بارزة خلف الممثلين إلا أنه لم يترك المشاهد حائرا فالحوار لا يخلو من الحديث عن أزمات المرور والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية عقب ثورة 25 يناير ، أما المكان فكان مشوشا لا تستطيع تمييزه بوضوح فى إشارة إلى السوشيال ميديا، وصب هانى عفيفى سخريته من ذلك العالم حين جعل من "قعدة حمام" مكانا يتحدث من خلاله كل ممثل فى مواجهة الجمهور، فى إسقاط واضح بأن العالم الافتراضى أشبه بالمراحيض، فهذا شاعر يهذى بكلمات ساذجة تثير الضحك وذاك يعانى الإحباط والفشل أمام الكاميرات، وتلك ناشطة نسوية تتغنى بحقوق النساء لاكتساب أكبر عدد من المشاهدات، وأخرى قررت ارتداء الحجاب لمجرد لفت الانتباه، وهؤلاء أصحاب مهن مستحدثة أطلقوا على أنفسهم خبراء، لم نكن نسمع عنهم قبل ذلك الاختراع المسمى بوسائل التواصل الاجتماعى.
الممثلون يجمعهم بيت واحد من المفترض أنه بيت أحدهم، لكنهم فى نفس الوقت غير مجتمعين، فقط يتفاعلون مع بعضهم البعض من خلال مواقع السوشيال ميديا، تقرر تلك المجموعة أن تخرج سويا فى لقاء كثيرا ما خططوا له، لكن تبوء محاولاتهم بالفشل، فكل منهم يرفض الآخر لأسباب سياسية أو أيدلوجية أو لسبب تافه كالشكل أو الانتماء الكروى.
فى أحد جوانب المسرح وضع المخرج هانى عفيفى "مليكان" مطموس الملامح يتواجد مع مجموعة الشباب على المسرح شاهد على أحاديثهم وصداماتهم، وكأنه النموذج الذى أصبح كل منا عليا جراء التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعى، فالكل يردد نفس الكلمات وبنفس الأسلوب بـضغطة زر تسمى "share" ، حتى أصبح كل منا "مسخ" من الآخر.
هانى عفيفى: نفتقد أن يتقبل كل منا الآخر على اختلافه
هانى عفيفى
"العرض تحليل لآثار السوشيال ميديا على مجتمعنا" هكذا تحدث هانى عفيفى لـ(اليوم السابع)، وقال: "نناقش فكرة وجودنا على مواقع التواصل الاجتماعى فقط دون أن يجمعنا لقاء واحد فى الواقع بسبب اختلافنا، فلا أحد يريد أن يتقبل الآخر على اختلافه".
وعن تعرض المسرحية لأحداث 25 يناير وما أعقبها من فوضى، أوضح هانى عفيفى: "تعمدنا ألا نأخذ موقفا سواء مع أو ضد من أحداث 25 يناير.. فهو أكبر حدث انشغل به الرأى العام الشبابى.. وأخذ الكل يردد العبارات على السوشيال ميديا ويرى المستقبل من وجهة نظره فى العالم الافتراضى وغاب الفعل عن الواقع المعاش".
وحول اختياره منهج "العبث" فى إخراج مسرحية "تسجيل دخول"، قال: "كل مسرحية أخرجها لها منهج يفرضه الموضوع.. أحدده قبل بدء البروفات حتى أوجه الممثلين من خلاله، فأخرجت من قبل عروض ميوزيكال وتجريبى وملحمى، فأنا لا أصنف نفسى واخترت العبث لأنه الأنسب لمسرحية (تسجيل دخول) من وجهة نظرى، لأن ما نشهده حاليا عبر السوشيال ميديا ما هو إلا عبث".
أحمد السلكاوى: خصوصياتنا مباحة على التواصل الاجتماعى
السلكاوى
ويجسد الفنان أحمد السلكاوى ضمن أحداث المسرحية شخصية "الساحر" ذلك الرجل المزيف الذى يبهر الناس دون فعل شىء مبهر فى الحقيقة، وتحدث السلكاوى عن دوره قائلا: "الساحر يسعى خلال العرض أن يرى الناس من خلاله شيئًا غير واقعهم".
وحول التحضير للدور قال السلكاوى: "اتفقنا على (العبث) منهجا للمسرحية، وقرأت مسرحية (المغنية الصلعاء) ليوجين يونسكو أحد رواد تلك المدرسة، واستلهمت شخصية رجل الإطفاء الذى يمثل السلطة ضمن مسرحية يونسكو".
وأضاف: " استمرت التحضيرات للمسرحية 10 شهور ارتجلت خلالها منولوجاتى بمساعدة المخرج هانى عفيفى والكاتبين إسماعيل إبراهيم وفادى سمير، واقترحت عليهم أن يكون هناك (مليكان) على المسرح لأن الساحر يسعى دائما أن يجعل الناس جميعا شخصا واحدا.. كل الناس تتكلم نفس الكلام.. وهذا واقعنا على مواقع التواصل الاجتماعى بالفعل".
وأوضح: "بالنظر إلى شروط الاستخدام على (فيس بوك) كمثال، سنجد أن الكل يكتب كل شىء عنه بداية من الاسم مرورا بالوظيفة حتى المشاعر سواء فرح أو حزن، فأصبحت خصوصيتنا مباحة أمام السوشيال ميديا".
شادى الدالى: شخصيات المسرحية تؤكد الروح الديجيتالية المسيطرة على واقعنا
ويجسد الفنان شادى الدالى شخصية يحيى ضمن أحداث المسرحية، ويحدثنا شادى عن تحضيره للشخصية قائلا: "يحيى شخص يدعى الحكمة والرصانة لكنه عكس ذلك فى الحقيقة وهذا موجود فى عالم السوشيا ميديا بكثرة.. ويبدو يحيى وكأنه شخص محروم عاطفيا ويبحث باستمرار عن علاقات غرامية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى".
وأضاف: "العرض صعب فشخصياته مسخ من بعض للتأكيد على الروح الديجيتالية المسيطرة على العصر.. لكننى مستمتع جدا بالتمثيل فى مسرحية (تسجيل دخول) لأننى خلال الفترة الأخيرة كنت أركز على الإخراج والتأليف".
"تسجيل دخول" عرض مختلف ووجبة مسرحية تجمع بين الفكرة والإمتاع، تعرض يوميا على المسرح الهناجر فى تمام الساعة الثامنة والنصف مساء، باستثناء يوم الاثنين من كل أسبوع، فكرة وإخراج هانى عفيفى، كتابة إسماعيل إبراهيم وفادى سمير، تمثيل أحمد السلكاوى، أوسكار نجدى، شادى الدالى، عمرو جمال، محمد الشافعى، منة حمدى، ندى نادر، هبة الكومى، ديكور مى كمال، أزياء مروة عودة، موسيقى محمد صلاح، مادة فيلمية أحمد روبى، إضاءة هانى عفيفى، محمد عبد المحسن، مساعد مخرج فتحى إسماعيل، إسماعيل إبراهيم، حاتم موسى، من إنتاج مركز الهناجر للفنون برئاسة الفنان محمد دسوقى، ورئيس قطاع الإنتاج الثقافى المخرج خالد جلال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة