فى الوقت الذى تحرص فيه الحكومة اليابانية على الإعلان الدائم عن أحقيتها فى جزر "دوكو"، والتى تتنازع عليها مع جارها وحليفها الإقليمى كوريا الجنوبية، نجد أنها فى طريقها نحو تقديم تنازلات فيما يتعلق بجزر الكوريل، والمتنازع عليها مع روسيا، فى انعكاس صريح لرغبة طوكيو فى التقارب مع موسكو فى المرحلة الراهنة، فى ظل معطيات دولية تفيد باتساع الدور الذى يمكن أن تقوم به روسيا فى العديد من القضايا الدولية المرتبطة بآسيا فى المستقبل، وفى القلب منها قضية كوريا الشمالية.
ولعل التباين الواضح فى الموقف الذى تتبناه حكومة رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى، تجاه قضايا الجزر المتنازع على ملكيتها، سواء مع كوريا الجنوبية أو روسيا، يمثل تغييرا كبيرا ليس فقط فى بوصلة الدبلوماسية اليابانية، وإنما أيضا امتدادا لصراع النفوذ الذى تشهده القارة الصفراء بين القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتى تمثل الحليف الرئيسى لليابان وكوريا الجنوبية طيلة عقود طويلة من الزمان، من جانب، وروسيا، والتى نجحت فى استعادة قدر كبير من نفوذها الدولى فى العديد من مناطق العالم فى السنوات الماضية، وتواصل سعيها نحو مزاحمة الدور الأمريكى على قمة النظام الدولى من جانب آخر.
إعلان 1956.. "الكوريل" ورقة طوكيو للضغط على واشنطن
ففى لقاءه مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، أعرب آبى عن استعداده الكامل لمناقشة قضية الجزر المتنازع عليها مع موسكو وفقا لإعلان 1956، والذى يقضى باستعادة اليابان لسيادتها على جزيرتين من جزر الكوريل الأربعة بعد التوقيع على معاهدة السلام، وهو الأمر الذى لم يتحقق رغم توقيع اليابان على الإعلان المذكور والتصديق عليه، حيث رفضت طوكيو التوقيع على معاهد سلام مع موسكو خوفا من التهديدات التى أطلقتها الولايات المتحدة آنذاك بوضع جزيرة اوكيناوا بكاملها تحت السيادة الأمريكية فى حال إقدام الحكومة اليابانية على أى خطوة من شأنها تهديد المصالح الأمريكية للخطر.
جزر الكوريل
وعلى الرغم من أن الموقف الأمريكى تجاه معاهدة السلام اليابانية الروسية يبدو مرتبطا بظروف الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إبان الحرب الباردة، إلا أن المخاوف الأمريكية من اتساع نطاق النفوذ الروسى فى تلك المنطقة تبدو قائمة، فى حالة نجاح موسكو فى استقطاب اليابان بعيدا عن المدار الأمريكى فى المرحلة الراهنة، فى ظل سعى موسكو للقيام بدور بارز فى المنطقة عبر قضية كوريا الشمالية، والتى تشهد حالة من الشد والجذب بين الحين والآخر، بين واشنطن وبيونج يانج، رغم التطور الكبير فى العلاقات بينهما منذ قمة سنغافورة، جراء استمرار العقوبات الأمريكية، والتلويح الكورى الشمالى بالعودة إلى مواصلة أنشطتها النووية حال عدم فرض العقوبات.
انهيار الصفقة.. اليابان تبحث عن حلفاء جدد
وهنا يمكن القول بإن التغير الكبير فى موقف اليابان تجاه قضية جزر الكوريل يمثل انهيارا للصفقة الأمنية التى أبرمتها قبل عقود مع الولايات المتحدة، والتى قامت على دعم طوكيو للمواقف الأمريكية مقابل الحصول على الحماية الأمنية والسياسية من واشنطن، خاصة وأن التحرك اليابانى يحمل فى طياته ليس فقط محاولة للبحث عن حليف جديد، وإنما يمتد إلى محاولة لإيجاد قوى جديدة يمكنها القيام بدور فى قضايا المنطقة، وعلى رأسها أزمة كوريا الشمالية، وذلك بعد الفشل الأمريكى الذريع سواء فى حماية المصالح اليابانية فيما يتعلق بقضية المختطفين اليابانيين فى بيونج يانج، والتى تجاهلها الرئيس الأمريكى أثناء لقاءه مع الزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون، أو حتى تهدئة مخاوفها المستقبلية جراء الاتفاق المحتمل بين كوريا الشمالية والقوى الدولية الأخرى.
بوتين وشينزو آبى
التخلى الأمريكى عن اليابان تبعه موقفا مماثلا من قبل كوريا الجنوبية، حيث تجاهلت سول المخاوف اليابانية جراء انفتاح بيونج يانج على العالم دون تقديم ضمانات من شأنها طمأنة طوكيو، حيث سعى الرئيس الكورى الجنوبى نحو دعم الخطوات الكورية الشمالية، والترويج لها فى مختلف عواصم العالم، وهو ما يمثل صفعة أخرى لطوكيو من قبل الحليف الإقليمى الأبرز، وهو ما دفع رئيس الوزراء اليابانى لاتخاذ خطوات نحو التقارب مع قوى إقليمية أخرى وهى الصين، رغم الخلافات الكبيرة بين الجانبين.
انقسام الحلفاء.. موسكو فرصة اليابان لانهاء التبعية
ولعل الموقف الكورى الجنوبى الداعم للمفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية يمثل سببا رئيسيا فى تدهور العلاقات بصورة كبيرة بين سول وطوكيو، وهو ما بدا واضحا فى التطورات الأخيرة التى أعقبت إعلان اليابان عن تمسكها بملكيتها لجزر "دوكو"، وهو الأمر الذى أدى إلى حالة من التوتر الدبلوماسى بين البلدين الحليفين، وما تبع ذلك من الحكم الذى أصدره القضاء الكورى الجنوبى بإلزام الحكومة اليابانية بدفع تعويضات لصالح العمال الكوريين الذين تعرضوا للسخرة إبان الحرب العالمية الثانية.
شينزو آبى وترامب
وهنا يصبح الانقسام الواضح بين حلفاء أمريكا فى آسيا بمثابة فرصة جديدة لصالح منافسى الولايات المتحدة، وعلى رأسهم روسيا، فى المرحلة المقبلة، فى الوقت الذى تمثل فيه موسكو فرصة جديدة لليابان من أجل تحقيق قدر من الاستقلالية فى القرار السياسى بعيدا عن التبعية للولايات المتحدة، وذلك من خلال تحقيق التوازن فى العلاقات اليابانية مع كل من الصين والولايات المتحدة وروسيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة