- البيان ضربة قوية ترفض كل المسميات التى تختفى خلفها الجماعات المتطرفة ويتحفظ على تصدير الفتاوى خارج نطاقها المكانى
عقدت رابطة العالم الإسلامى مؤتمرًا مهما بمكة المكرمة يومى الأربعاء والخميس 12، 13 ديسمبر 2018م، تحت عنوان: «الوحدة الإسلامية: مخاطر التصنيف والإقصاء.. تعزيز مفاهيم الدولة الوطنية وقيمها المشتركة»، ناقش العديد من الأبحاث، وتضمن الكثير من الكلمات لرؤساء الوفود شرفت بكلمة منها أكدت فيها على أن وحدة صف الأمة العربية لا تتناقض أبدًا مع مفهوم الدولة الوطنية وترسيخ دعائمها وتماسكها وقوة بنيانها، فإذا تفككت الدولة الوطنية فلا مجال لوحدة أكبر على الإطلاق، فوحدة صف الأمة وتعزيز دور وبناء الدولة الوطنية يتكاملان ولا يتناقضان، كما أن وحدة صف الأمة لا تتناقض أبدًا مع بناء شراكات إنسانية واسعة، بل إنها تتطلبها لصالح الأمة والإنسانية التى أمرنا ديننا الحنيف أن نحمل لها الخير، مؤكدا على أن الحفاظ على الدولة الوطنية يجب أن يدرج فى إطار الكليات التى يجب الحفاظ عليها، وأن آلية وطبيعة وحدة الأمة لا يمكن حصرها فى نمط واحد، فقد صارت وحدة الصف فى عالم اليوم تأخذ أنماطا متعددة، وعلينا أن نعمل فى ضوء المتاح منها، فليس اليوم كالأمس، كما أكدت على أننا دعاة سلام نمد أيدينا بالسلام لكل دعاة السلام والباحثين عنه والساعين إليه، فالوحدة التى ندعو إليها إنما هى تلك التى تصب فى صالح سلام الإنسانية، على أن موضوع المؤتمر فى حد ذاته يحمل تصحيحا لكثير من المفاهيم الخاطئة لدى الجماعات المتطرفة التى تضع الوطن فى تقابلية خاطئة مع الدين.
وأرى أن هذا المؤتمر ببيانه الختامى، وبما لمسته من مناقشته الأكثر سعة ومرونة وانفتاحا وانضباطا وانطلاقا نحو قراءة الواقع ومراعاة ظروفه ومستجداته فى تاريخ مؤتمرات الرابطة.
وتأكيدًا لما ذكرت يطيب لى أن أنقل بعض ما تضمنه البيان الختامى من توصيات:
1 - التأكيد على أن الوحدة الإسلامية تعنى الوفاق والتآلف والتعاون وتوحيد الجهود فى مواجهة موجات الشر، وفى طليعتها أفكار التشدد والتطرف والإرهاب، كما تعنى الوحدة الإسلامية نبذ كل شعار أو اسم مرادف لاسم الإسلام الجامع للمسلمين وعدم القبول بأى دخيل مزاحم له من الشعارات والأسماء المعبرة عن اتجاهات فكرية وحزبية خرجت عن هداية الإسلام، خاصة ما يسمى بالإسلام السياسى الذى يتغيى تحقيق أهداف سياسية دخلت عبر تاريخها الطويل منذ تأسست حتى اليوم فى صراعات ومكائد مع نفسها، عندما تنفرد بالسيادة ومع غيرها عندما تكون خارج السيادة.
والشاهد التاريخى يفيد بأن الجماعات المتدثرة بعباءة الإسلام لم تنل خيرًا سوى شق الصف الإسلامى الواحد، الذى يعتز جميعه بأنه محسوب على الإسلام نفسه لا على فصيل أو حزب أو جماعة تحتكر هذه الأخوة، وتعتقد فى أدبيات رموزها أن الأمة قد ارتدت على أدبارها، وأنها تعيش جاهلية جديدة وتشكك الأمة فى إيمانها وإسلامها، وهى بمكرها تظهر الوداد واللين للمسلمين كافة، داخل دولهم الوطنية، مبدية فى الظاهر احترام شرعيتها عندما تكون الدولة الوطنية فى يسرها وسكينة أحداثها، فيما تلتف على ذلك كله فى عسرها وعاصف أحداثها فى سلسلة من التدابير المكشوفة على وجدان الأمة بمحاولات تتابع خسارتها وهزائمها عبر تاريخه، غير متعظة بنفسها قبل غيرها، يحملها إلى ذلك اللهاث على الأخذ بزمام الأمور، واحتكار الإسلام على مواصفات عنفها المبيت والمكشوف، فيما لم تلبث «قليلا» وقد هيمنت «وقتا يسيرًا» حتى ضربت ذات اليمين وذات الشمال، بل صار فى داخلها مساجلات ومواجهات، وهى فى ذلك كله لا تتوانى بكل تنازل عن القيم التى تزعم بعثها من جديد، ولا تتوانى فى عرض نفسها على من حذرت كتاباتها وبياناتها وراسخ أدبياتها من غزو أفكار الآخر على القيم الإسلامية، فيما يرى اعتدال الإسلام الممثل لمنهجه الواحد بشعاره الشامل والحاضن للجميع أن قيم الإسلام ثابتة لا تقبل المزايدة ولا التنازل مهما تكن الذرائع، وأن الآخر غير الإسلامى له حق الكرامة وحسن التعايش ومحبة الخير له والتعاون الصادق معه لتحقيق المصالح المشتركة والسعى لبناء جسور المحبة والوئام الإنسانى وصولا لعالم يسوده العدل والحرية والسلام مع تبادل حسن الظن بين الجميع، والبعد عن افتعال الصدام الحضارى والثقافى وعن مبالغات نظريات المؤامرة والمكايدة، والعمل سويا لمواجهة التطرف المحسوب زورا على الإسلام والتطرف المضاد فى صورته الأبرز المسماة «الإسلاموفوبيا»، مع أهمية إدراك الجميع أن الاختلاف والتنوع والتعددية سنة من سنن الله تعالى فى خلقه، وأنه لا حمل على الأديان والمذاهب والأفكار بالإكراه، وأن ممارسات من يفعل ذلك تُخطئ شرعا وعقلا، وأن الله سبحانه هو من يحكم بين العباد يوم القيامة، وأنه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء والمرسلين، وأن هذا الاختلاف والتنوع يكون كذلك داخل الدين نفسه، كما فى المذاهب الإسلامية وغيرها، وأن مبدأ المجافاة والتوجس من المخالف لا يرتد سلبا على الدين الآخر فقط بل على داخل الدين نفسه، وأن السبيل الأمثل فى ذلك كله هو دعوة الجميع إلى كلمة، سواء بالحوار الحضارى الذى يستصحب محبة الخير للجميع.
مع التأكيد على أن الوحدة الإسلامية لا تحمل تجاه الآخر سوى محبة الخير وحسن التفاهم والتعايش والتعاون، والحوار بالحسنى، وأن سلبيات الكراهية والتنابز السائد على كتابات من لم يتخلق بقيم الإسلام الرفيعة لا تُمثل الإسلام وليست محسوبة إلا على أصحابها.
2 - المسلمون متساوون فى الحقوق والواجبات، وهم جسد واحد مهما نأت بهم الديار أو اختلفت بهم الرؤى والاجتهادات والمواقف، تجمعهم مقاصد الإسلام السامية، ورسالته الحضارية الخالدة المشعة بنورها على الجميع والداعية دوما إلى تحقيق الرحمة والعدل والإحسان والتسامح والأمن والسلام بين الناس أجمعين.
3 - توحد المسلمين وتضامنهم ليس موجهًا ضد أحد، بل هو تحقيق لغرض دينى نبيل، وامتثال للنداء الإلهى الكريم «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا» «آل عمران: 103»، يمضى بالمسلمين إلى الإسهام فى صناعة عالم تسوده العدالة والسلم والتراحم والوئام، ويفتح صفحات إيجابية فى العلاقة الحضارية بين الأمم، والحوار الثقافى بين الشعوب على أسس من الاحترام المتبادل، والتعاون فى إعمار الأرض، وتحقيق أمن الإنسان ورخائه، ومواجهة التحديات التى تهدد مستقبل الإنسانية، مع التأكيد على أن وقائع التاريخ القاسى المحسوب فى الكتابات غير المنصفة على الإسلام أو المحسوب على غيره من الأديان ليس أى منها محسوبا على حقيقة الأديان، وإنما هى اجتهادات أو مطامع أو جنايات بشرية يتحمل إثمها ووزرها أصحابها، إذ ليس أحد من البشر معصوما سوى أنبياء الله ورسله فيما يبلغونه عن ربهم جل وعلا، وأن تدخل المصالح السياسية والمادية باسم الأديان فعلت فعلها وشوهت سمعتها، وهو ما ترجمته فصول قاسية من تاريخ الأديان تُرْوَى بكل ألم، ولا يزال البعض يستدعيها لإذكاء الجراح فيما يتعين شرعا ومنطقا طى صفحتها، وقد قال الحق سبحانه: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «البقرة: 134».
4 - التنوع المذهبى والثقافى فى المجتمعات الإسلامية يقتضى إقامة شراكة عادلة ضمن عقد اجتماعى يتوافق عليه الجميع، يرفض دعوات الاستعلاء المذهبى والثقافى، ويستثمر تعدد الرؤى وتباين النظر فى إثراء الحياة المدنية والحضارية، وحفظ مقدرات الأمة، وتحقيق تنمية وطنية شاملة تُسعد الجميع، ويُبرهن على أن التعدد والتنوع الإيجابى ثراء معرفى يضاف لرصيد الأمة الإسلامية ثقافيا وحضاريا.
5 - اجتهادات علماء المذاهب الإسلامية إثراء مهم يعبر عن مفهومهم الشرعية التى وصلوا إليها، بحسب سياقات الزمان والمكان والأحوال والأعراف، وهى اجتهادات جديرة بالاحترام لا التقديس والتعصب.
6 - تمكين كل المكونات الدينية والمذهبية والثقافية من ممارسة شعائرها بحرية، واحترام خصوصياتها والتخلية بينها وبين حقها فى المحافظة على هويتها الثقافية والاجتماعية، والاستفادة من التنوع فى بناء مجتمع تنموى متجانس على أساس من المواطنة العادلة والشاملة التى تشرك الجميع فى برامج التنمية ومخرجاتها.
7 - التعاون فى سبيل التصدى الحكيم للتحديات المحدقة والأعمال الإجرامية الظالمة، سواء كانت فى الداخل الإسلامى أم خارجه، ومكافحة التعصب والانغلاق والتطرف والجهل، ورفض المشاريع الطائفية التى تمارس الإقصاء البغيض، ووضع خطط مشتركة لأولويات العمل فى ذلك فى مساراته كافة، بما يتجاوز المعوقات التى تعرض النسيج الوطنى للتمزق، وتمنع تكامله وتبعثر موارده.
8 - توعية الشباب المسلم بخطورة الحماسة والعاطفة الدينية المجردة من الوعى، بما فى ذلك عدم الدراية بالحكم الشرعى فى كل واقعة عن طريق الراسخين فى العلم، الذين يُحسنون النظر فى الوقائع «جمعا وتفريقا»، ومن ثم إنزالها على نصوص الشريعة ودلالاتها ومقاصدها وقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، مع النظر الصحيح فى فقه المآلات، وسد الذرائع، والمصالح بأحكامها الثلاثة «إرسالا واعتبارا وإلغاء»، مع ضوابط تغير الفتوى والحكم، وكذا حسن النظر فى قواعد الإطلاق والتقييد، والإجمال والبيان، والعموم والخصوص والمفاهيم بأنواعها وما يحكمها من قواعد، كل هذا وغيره من قواعد الفقه والأصول تُمثل بُعدًا غائبا وحلقة مفقودة لدى كل متجاسر على أحكام الشريعة، وهو خالى الوفاض منها علما وفقها فى غمرة الانخداع بحفظة النصوص دون فقه، فضلا عن مجتزئيها، ومن هنا تتضح أهمية حضور العالم الراسخ وعدم غيبته عن تلك الوقائع ليبصر الناس بهدى الشريعة وينير الطريق السوى للجميع.
9 - أن تكون الملتقيات الفكرية والثقافية جامعة لكلمة المسلمين بعيدة عن التصنيف والإقصاء تحت أى شعار غير شعار واسم ووصف الإسلام الجامع مع ترسيخ الإيمان بالسنة الكونية فى الاختلاف والتنوع والتعددية، وأن يقتصر دور المؤسسات الدينية الرسمية فى كل بلد على شأنها الدينى الخاص دون التدخل فى شؤون غيرها، إذ لكل أحواله وأعرافه التى تتغير بها الفتوى والحكم، وأن تكون اللقاءات فيما بينها لتعزيز اللحمة الإسلامية فى شأنها العلمى والفكرى والوجدانى وطلب الإثراء والتبادل المجرد فيما بينها.
10 - التأكيد على أن الدولة الوطنية «بقيمها المشتركة مع شقيقاتها من الدول فى نطاق هويتها الإسلامية» تعد امتدادًا لمفهوم الأمة، باعتبارها إحدى مكوناتها التى تتلاقى وتتكامل مع أخواتها فى إطارها الدولى الدينى ببرامجه العلمية والفكرية.
11 - ترسيخ مفاهيم التعايش والاندماج الإيجابى فى الدولة الوطنية الشاملة بطيفها الدينى والعرقى.
12 - التحفظ على تصدير الفتاوى خارج نطاقها المكانى، وذلك أن لكل جهة أحوالها وأعرافها الخاصة بها التى تختلف بها الفتاوى والأحكام، ويدخل فى هذه التوصية قصر العمل الموضوعى المتعلق بالشؤون الدينية الرسمية لكل دولة على جغرافيتها المكانية دون التدخل فى شؤون غيرها.
وفى هذا ما يؤكد كثيرًا مما نتبناه ونؤكد عليه من ضرورة التفرقة بين الثابت والمتغير، ومراعاة ظروف العصر وطبيعته ومستجداته، والتأكيد على مشروعية الدولة الوطنية بمفهومها المعاصر، وضرورة الحفاظ على بنائها قويا متماسكا مستقرًا، والسعى إلى عقد اجتماعى يحقق المواطنة المتكافئة لأبناء الوطن جميعا فى الحقوق والواجبات دون تمييز، مع احترام حق الآخر فى التنوع والاختلاف.
وأرى أن من أهم ما تضمنه هذا البيان هو رفض ولفظ كل هذه المسميات التى تتدثر بها وتتستر خلفها الجماعات المتطرفة من أسماء تنسب بها نفسها إلى الإسلام، وتكاد تحصره أو تحصر بعض صفاته فى أعضائها دون سواهم، وعلى الرغم من أن البيان لم يصرح تأدبا بأسماء هذه الجماعات أو الجمعيات، فإنه كان واضحا فى اتخاذ موقف شديد الرفض لتلك الجماعات التى تحاول قصر الوصف بالإسلام أو صفة من صفاته على أعضائها دون غيرهم، مع رميها للآخرين بأنهم أرباب جاهلية جديدة على نحو ما قرره بعض منظريهم للانطلاق من تجهيل المجتمع إلى تفسيقه فتكفيره فاستحلال تفجيره وسفك دماء المخالفين من أبنائه، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
وأرى أن الدولة الوطنية الحديثة يجب أن تفطن إلى تلك الأسماء التى تحمل تمييزا دينيا، سواء أكانت أسماء لجماعات أم لجمعيات أم لأحزاب فلا تسمح بها، إذ يجب ألا نخلط بين العمل السياسى أو حتى الاجتماعى وبين الشأن الدينى جليل الخطب والخطر، حيث إن هذه الجماعات والجمعيات والأحزاب تعمد إلى دغدغة مشاعر العامة من خلال حملها لأسماء ذات دلالات دينية.
وأرى- أيضًا- أن من التوصيات التى يجب الوقوف عندها تلك التوصية التى تؤكد على عدم تصدير الفتوى التى تتصل بالشؤون الداخلية لدول أخرى، وأن تعنى كل مؤسسة دينية رسمية بالشأن الداخلى فى نطاق شؤونها ومسؤوليتها، وأن نترك لكل مؤسسة أن تقرر ما يناسب واقعها، ما دام الأمر لا يمس ثابتا قطعيا محكما لا مجال للخلاف فيه على الإطلاق، فإذا ما تطلب الأمر بيانا شرعيا يبرئ الذمة أمام الله «عز وجل»، فيجب عندئذ توخى أقصى درجات الموضوعية، وفتح حوار بناء مع الجهة مصدرة الفتوى للوقوف على رؤيتها، وما اعتمدت عليه فى إصدار فتواها فى روح من المودة والتناصح والحوار الحضارى وحسن الظن، الذى حثنا ديننا الحنيف على العمل فى إطاره، فإذا كان فى النهاية لا بد من إصدار بيان شرعى فى شأن عام وجب أن يكون شديد الموضوعية، متجنبًا لأى عبارات تلميح أو تصريح تنال من اجتهاد الآخرين أو رؤيتهم أو القدح فى أشخاصهم أو مؤسساتهم.
عدد الردود 0
بواسطة:
غيث
رابطة العالم الاسلامى
حرص المسلمين و المسئولين المسلمين على الارتقاء بالمستويات الاجتماعية كافة