فى الوقت الذى يتصاعد فيه التوتر بين روسيا وأوكرانيا، على خلفية احتجاز موسكو ثلاثة سفن أوكرانية عند مضيق كيرتش، متهمة إياهم بالقيام بأعمال غير مشروعة فى المياه الإقليمية الروسية، يبدو أن النزاع سوف يتجه نحو مناح أخرى جديدة فى الأيام القادمة، خاصة بعد الإجراءات التى اتخذتها كييف لتعزيز استقلال كنيستها الأرثوذكسية عن الكنيسة الروسية، وذلك بعد انتخاب بطريرك جديد للكنيسة الأوكرانية يوم السبت الماضى، وهى الخطوة التى ربما تفتح الباب أمام مدخل جديد للصراع المتأجج بين البلدين، منذ إقدام موسكو على ضم شبه جزيرة القرم فى عام 2014.
وعلى الرغم من أن خطوات كييف لتحقيق ما يمكننا تسميته بـ"الاستقلال الكنسى" بدأت منذ ما قبل احتجاز السفن الأوكرانية من قبل السلطات الروسية، حيث نجح الرئيس الأوكرانى بترو بوروشنكو فى انتزاع توقيع بطريرك القسطنطينية على قرار بالاعتراف بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية فى نوفمبر الماضى، إلا أن تزامن الإعلان عن تنصيب بطريرك جديد، وهو الأب لوبيفانى، مع الأزمة السياسية الراهنة يطرح تساؤلات عدة حول ما إذا كانت الكنيسة ستكون سببا لاندلاع حرب جديدة بين روسيا وأوكرانيا فى الأيام القادمة، فى ظل تداخل العديد من القوى الدولية على خط الأزمة بين البلدين، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
رئيس أوكرانيا يهنئ البطريرك الجديد
الهيمنة الأرثوذكسية.. "الاستقلال الكنسى" لأوكرانيا صفعة لموسكو
ويمثل قرار الكنيسة الأوكرانية صفعة قوية لروسيا فى المرحلة الراهنة، خاصة وأن الهيمنة الأرثوذكسية للكنيسة الروسية تمثل أحد أدواتها الناعمة لتعميق نفوذها، سواء فى منطقتها، فى ظل سلطانها الروحى على المؤمنين التابعين لها فى الدول الواقعة فى المحيط الجغرافى لموسكو، أو حتى فى مناطق أخرى فى العالم، فى ظل استخدامها من قبل السلطة السياسية كوسيلة لتصدير نموذج قيمى وأخلاقى يبدو مختلفا عن المسيحية فى أوروبا، والتى لا تلعب فيها المؤسسة الدينية دورا كبيرا فى ضوء التزام دول "المعسكر الغربى" بالقيم الليبرالية.
بطريرك الكنيسة الأوكرانية فى قداس تنصيبه
وهنا تضفى الكنيسة طابعا فريدا لموسكو، باعتبارها أحد أدوات قوتها الناعمة، التى يمكن من خلالها فرض نفوذها فى مناطق عمقها الاستراتيجى، والتى يحاول الغرب السيطرة عليها عبر أدواته، وعلى رأسها حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، وذلك لتحجيم النفوذ الروسى، دحض أية محاولات من قبل موسكو لاستعادة الهيمنة السوفيتية على أوروبا الشرقية، كما أنها من جانب أخر تقوم بدور هام فى ملء الفراغ الأيديولوجى الناجم عن انهيار الاتحاد السوفيتى ذو العقيدة الشيوعية، فى أعقاب الحرب الباردة مع بداية التسعينات من القرن الماضى.
مباركة أمريكية.. الخطوة الأوكرانية تتجاوز البعد الدينى
ولعل الدعم الكبير الذى قدمته الولايات المتحدة لخطوة "الاستقلال الكنسى" لبطريركية كييف، عبر تهنئتها رسميا، دليلا دامغا على أن الخطوة الأوكرانية تتجاوز فى تداعياتها الجانب الدينى، والذى يتمثل فى تقليص أتباع الكنيسة الروسية بصورة كبيرة، لتمتد إلى تقليم أظافر موسكو، والتى تسعى بقوة نحو العودة إلى سابق عهدها كقوى دولية كبيرة يمكنها مناطحة النفوذ الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، وهو الأمر الذى نجحت فيه الحكومة الروسية بالفعل فى السنوات الماضية، حيث أصبحت بمثابة صاحبة اليد العليا فى العديد من القضايا الدولية الهامة، وعلى رأسها الأزمة السورية، والتى فتحت الباب أمام دور روسى أكبر فى الشرق الأوسط فى المرحلة المقبلة، بعد عقود من النفوذ المنفرد للولايات المتحدة.
ألاف المسيحيين يحتشدون أمام كاتدرائية كييف احتفالا باستقلال كنيستهم
المحاولات الأمريكية الغربية فى حصار روسيا ليست جديدة على الإطلاق، حيث حاول "المعسكر الغربى" تطويق موسكو عبر أدواته الصلبة، من خلال تشجيع دول أوروبا الشرقية على الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى اعتبرته موسكو مرارا وتكرارا بمثابة تهديد مباشر لأمنها القومى، وربما يساهم فى زعزعة استقرار المنطقة، كما سعى الغرب كذلك إلى دعم انتفاضة شعبية فى أوكرانيا للإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش والموالى لموسكو، وهو الأمر الذى دفع الحكومة الروسية إلى التدخل وضم شبه جزيرة القرم، ولكن كان الفشل بمثابة المصير المشترك لكل المحاولات الغربية التى استهدفت حصار روسيا بالقوة.
نهج جديد.. ترامب يواصل استهداف أدوات موسكو الناعمة
ويمثل استهداف القوة الناعمة الروسية امتدادا للنهج الجديد الذى يتبناه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والذى تقوم رؤيته على مناهضة المؤسسات الغربية، وهو ما يبدو واضحا فى تصريحاته التى أطلقها منذ بداية حقبته، حيث هدد مرارا وتكرارا بالانسحاب من الناتو، بالإضافة إلى موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبى، وهى المواقف التى ربما أثارت قلقا غربيا كبيرا فى الأشهر الماضية، مما أثار دعوات بإنشاء كيانات دفاعية أوروبية، على غرار دعوة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الأخيرة بإنشاء جيش أوروبى موحد، ربما ليحل بديلا للناتو.
الرئيس الأوكرانى حرص على المشاركة فى تنصيب البطريرك الجديد
كان الرئيس الأمريكى قد سبق له وأن أعرب عن انزعاجه جراء النجاح الكبير الذى حققته موسكو فى الانفتاح على الغرب الأوروبى باستخدام سلاح الطاقة، حيث كان التعاون بين روسيا والعديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا فى هذا الإطار محلا لانتقاد لاذع من قبل ترامب، والذى حذر مما أسماه "التبعية لموسكو"، وهو ما يمثل انعكاسا لنجاح موسكو فى استخدام أدواتها الناعمة فى تحقيق أهدافها الدبلوماسية فى الأشهر الماضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة