على الرغم من حالة الجدل الكبيرة التى رافقت القرار الذى اتخذه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالانسحاب العسكرى من سوريا، إلا أن القرار ربما لم يكن مستغربا من قبل قطاع كبير من المتابعين، فى ظل معطيات عدة، يتمثل أهمها فى تصريحات سابقة أدلى بها الرجل حول رغبته فى الانسحاب من الأراضى السورية، بالإضافة إلى الهيمنة الفعلية لموسكو على الأوضاع فى الداخل السورى، سواء على المستوى العسكرى، فى إطار نجاحها المنقطع النظير فى دحض الميليشيات الإرهابية، أو على المستوى السياسى فى ظل سيطرتها الكاملة على خيوط اللعبة السياسية سواء فى الداخل السورى، أو فيما يتعلق بتفاعلاتها مع القوى الإقليمية المتداخلة فى الأزمة السورية منذ بدايتها.
إلا أن الخطوة الأمريكية ربما تفتح الباب أمام تكهنات عدة، يدور معظمها حول مستقبل الدور الأمريكى فى الشرق الأوسط، خاصة وأن الأوضاع فى سوريا لم تعد مقتصرة فى تداعياتها على الداخل السورى، وإنما امتدت لتصبح مرتبطة بالعديد من الملفات الدولية والإقليمية الأخرى، وعلى رأسها أمن إسرائيل، وهى القضية التى تمثل أولوية أمريكية فى المنطقة المتأججة بالصراعات منذ عقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى قضية النفوذ الإيرانى، والتى وضعها ترامب مسئولية تقويضها على عاتقه منذ بداية حقبته فى البيت الأبيض فى شهر يناير من العام الماضى.
النفوذ الإيرانى.. ترامب يعيد للأذهان سياسة أوباما
ولعل قرار ترامب يعيد إلى الأذهان الخطوات التى اتخذها سلفه باراك أوباما، بالانسحاب من العراق فى عام 2011، وهو ما أثار انتقادات لاذعة للإدارة السابقة من قبل العديد من الساسة، وكان من بينهم الرئيس الحالى نفسه، حيث اعتبروا أن هذا القرار ساهم بصورة كبيرة فى زيادة النفوذ الإيرانى فى العراق، بالتالى تفشى حالة من الفوضى فى المدن العراقية أدت فى نهاية المطاف إلى انتشار الميليشيات المتطرفة التى أثمرت عن ميلاد تنظيم داعش الإرهابى، والذى تمكن فى عام 2014، من السيطرة على المدن ذات الأغلبية السنية، وهو الأمر الذى مثل تهديدا كبيرا للمصالح الأمريكية فى المنطقة.
انسحاب الولايات المتحدة من العراق ساهم بصورة كبيرة فى تقويض ثقة حلفاء واشنطن، خاصة فى منطقة الخليج، فى السياسات التى تتبناها إدارة أوباما، مما ساهم فى زيادة الفجوة فى العلاقات بين الجانبين، بسبب مخاطرته بأمن دول المنطقة لصالح طهران، فى ظل أنشطتها المزعزعة للاستقرار.
ولكن يبقى التحرك الأمريكى فى عهد أوباما متوائما إلى حد كبير مع استراتيجيته، والتى قامت على التقارب مع طهران، وهو ما بدا واضحا فى قيادته للجهود الدولية التى أدت إلى إبرام الاتفاق النووى الذى جمع بين طهران والقوى الدولية الكبرى فى يوليو 2015، وهى الاتفاقية التى أعلن ترامب الانسحاب منها فى مايو الماضى، معلنا رغبته فى إبرام اتفاقية جديدة من شأنها احتواء النفوذ الإيرانى المتنامى فى المنطقة، والذى تراه واشنطن السبب الرئيسى فى الفوضى التى تعانيها المنطقة فى المرحلة الراهنة.
صفعة لإسرائيل.. التقارب مع موسكو ورقة تل أبيب الأخيرة
وهنا يبدو القرار الأمريكى متعارضا إلى حد كبير مع استراتيجية ترامب، والذى يسعى إلى احتواء النفوذ الإيرانى فى المنطقة، حيث يمثل الانسحاب العسكرى الأمريكى من سوريا بمثابة فرصة نادرة لطهران لفرض رؤيتها فى المنطقة فى المرحلة الراهنة، كما يمنحها مساحة نفوذ أكبر فى ظل الدور الذى تلعبه فى دول أخرى، وعلى رأسها لبنان والعراق واليمن، بالإضافة إلى تحالفها مع روسيا، صاحبة الكلمة العليا فى سوريا، وهو ما يساعدها على إحكام قبضتها على الأمور فى الداخل السورى فى المرحلة المقبلة بالإضافة إلى تسهيل مهمتها المتعلقة بتهريب الأسلحة لحزب الله اللبنانى الموالى لطهران عبر الأراضى السورية، وهو الأمر الذى يشكل تهديدا صريحا لأمن إسرائيل.
الانسحاب الأمريكى من سوريا يمثل فى جوهره صفعة قوية لإسرائيل، والتى تمثل الحليف الأقرب للولايات المتحدة فى المنطقة، حيث أنه يحرمها من ورقة المساومة الوحيدة التى تمتلكها تل أبيب فى مواجهو موسكو، لإجبار إيران على الانسحاب من الأراضى السورية، وخاصة من منطقة الجولان، مقابل خطوة الانسحاب الأمريكى، فى ضوء التوتر الراهن فى العلاقة بين روسيا وإسرائيل، على خلفية إسقاط طائرة روسية فى سوريا فى شهر سبتمبر الماضى.
وبالتالى يصبح التقارب مع موسكو هو بمثابة الورقة الأخيرة بيد الحكومة الإسرائيلية فى المرحلة الراهنة، لتسير إسرائيل على نفس الدرب الذى سبقتها إليه تركيا، والتى تمكنت روسيا من استقطابها بعد شهور من التوتر على خلفية أزمة مشابهة للأزمة الراهنة بين موسكو وتل أبيب، حيث أسقطت أنقرة طائرة روسية على الأراضى السورية فى عام 2016، حيث نجح الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى ضم نظيره التركى إلى مباحثات أستانا، فيما اعتبره البعض صفعة روسية للغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
فرصة نادرة.. هل تضع موسكو قدما لها بالقضية الفلسطينية؟
ويمثل التقارب مع إسرائيل فرصة مهمة للجانب الروسى لمواصلة دبلوماسيتها، والتى قامت على تجريد واشنطن من حلفائها فى المرحلة المقبلة، بعدما نجحت فى ذلك من قبل مع أنقرة، والتى كانت بمثابة رأس حربة فى أدوات المعسكر الغربى الدبلوماسية لتطويق سوريا مع بداية الأزمة فى عام 2011، إلا أن تداعيات التقارب بين روسيا وإسرائيل لا تقتصر فى نطاقها على الأزمة السورية، وإنما تمتد إلى القضية المركزية فى المنطقة، وهى القضية الفلسطينية.
ولعل الظروف مهيأة لروسيا للقيام بدور بارز فى القضية الفلسطينية، خاصة وأنه يتزامن مع انعدام ثقة الفلسطينيين فى الوسيط الأمريكى، فى ظل مواقفه المتحيزة التى تبناها منذ بداية حقبة ترامب، وعلى رأسها قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذى أعلنه فى ديسمبر من العام الماضى، بالإضافة إلى دعمه غير المحدود للأنشطة الإسرائيلية التى تمثل انتهاكا صريحا لحقوق الفلسطينيين، وبالتالى فهناك حاجة ملحة لوسيط جديد يمكنه أن يحظى بثقة كافة الأطراف فى المرحلة المقبلة، وخاصة الجانب العربى.