كانت المعارك وقتها مازلت على اشتعالها، كانت مصر وقتها شيعا، خرجنا للتو من انفجار الغضب في 2011، لكن حمم البركان لم تكن قد خرجت بعد، في هذه الأوقات نتعلق بالقيمة نتعلق بالحب، ولا شك فقد شعرت في كلمات هذا الرجل بكل الحب، شعرت فيها بعاشق صادق يعرف قيمة محبوبته، ويأسى لحالها.
أما المحب فهو الأمير طلال بن عبد العزيز، وأما المحبوبة فهي مصر، والمناسبة كانت الاحتفال بمرور عشر سنوات على افتتاح الجامعة العربية الفتوحة، وآية العشق الدمع، وقد قدم الأمير الذي رحل عن عالمنا اليوم في هذا الحفل كل الأدلة، فذكر مصر بكلمات مشفوعة بالشجن، وبكى على ما وصل الحال إليه، وابتهل إلى الله داعيا لها بكل خير.
قبل هذا التوقيت لم أكن أعرفه جيدا ، غالبا ما كان اسمه يأتي في سياق من التأريخ للحركات العروبية في العالم العربي، لكني مشهد بكاؤه في هذا الحفل جعلني أقتفي أثر هذا الرجل بعين مختلفة، وفي كل مرة أطالع جزاء من تاريخ هذا الرجل أرى كنزا إنسانيا كبير تتفتح أبوابه واحدا بعد آخر.
كان أميرا نعم ، لكنه كان يحمل قلب فنان، عاشق ولهان، مثله مثل الأمير المصري العظيم يوسف كمال الذي وهب حياته للفن والعلم والمعرفة، تنازل يوسف كمال عن عرش مصر، وتنازل طلال بن عبد العزيز عن كل المناصب الحكومية، أنفق الأمير يوسف كمال من جيبه الخاص على إنشاء كلية الفنون الجميلة والأكاديمية المصرية بروما والعديد من المتاحف والمعاهد ، وأنفق الأمير طلال بن عبد العزيز من جيبه الخاص على مشاريع بناء المستقبل والجامعات المتخصصة كمال صنع العديد من المؤسسات التي تحفز الفكر والإبداع، كلاهما مفكر، كلاهما متمرد، كلاهما صنع لبلده مجدا ونقل صورتها من مكان إلى آخر.
أحببت هذا الرجل، وكثيرا، وما هي إلا أشهر قليلة حتى خاطبت مؤسسة أجفند الثقافية التنموية التي يرأسها الراحل الكبير خطابا إلى جريدة اليوم السابع لدعوة الزميل خالد صلاح "رئيس التحرير" إلى حفل المؤسسة السنوي في الفلبين والذي كان من المقرر أن يحضره الرئيس الفلبيني ، ورد عليهم "صلاح" بأنه أنابني للحضور مكانه، ثم أبلغني بالأمر.
سعدت كثيرا بهذا الترشيح المباغت، برغم عدم عشقي للسفر ولا ابتهاجي به، وكان لسعادتي سببا آخر هو أني سأرى هذا الرجل المحب لمصر الفخور بعروبيته المدافع عن أحلامه، الواثق من قراراته الشجاع في انحيازاته الجسور في معاركه، سافرت إلى الفلبين مبتهجا، وسعدت بلقاء في المؤتمر الصحفي الذي تعارفنا فيه بشكل دراماتيكي، ودون خوض في تفاصيل متشعبة، تستطيع أن تقول إنني عشقت هذا الرجل من أول كلمة، مقدرا مجهوده الكبير من أجل دعم الإنسانية وهو في حالة صحية صعبة، لكني لم استطع وقتها أن أعبر له عن هذا الحب، خشية سوء الظن، وحفاظا على ماء الوجه.
اليوم مات الرجل النبيل بعد رحلة طويلة مع المرض، وليس مرضه الخاص فحسب، وإنما مرض الأمة العربية بالتخلف والفقر والكراهية ، وقد عاش محاربا لهذه الأمراض داعما لكل محاولات الشفاء، مدافعا عما تبقى لنا من قيم، فسلاما عليك يا راعي المحبة .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة