كانت قوات العدوان الثلاثى «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» على مصر تحمل عصاها وترحل، ختاما لفشل عدوانها الذى بدأ يوم 29 أكتوبر 1956، غير أن جنديين فرنسيا وإنجليزيا أرادا استفزاز أهل بورسعيد بتصرف يذكره الدكتور يحيى الشاعر، قائد المجموعات الشعبية المقاتلة فى بورسعيد، ضمن تشكيلات «المقاومة السرية فى القناة».
يتذكر «الشاعر» فى كتابه «الوجه الآخر للميدالية- حرب السويس 1956 - أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد»: «قاما الجنديان فى مساء يوم 23 ديسمبر بربط علمين بريطانى وفرنسى متوسطى الحجم على يد تمثال ديلسيبس اليُمنى، ووضعا على رأس التمثال غطاء رأس بيريه من وحدة مظلات فرنسية، ولزيادة الأمر سوءا، قاما بدهن التمثال بطبقة شحم كثيفة، كما وضعا الشحم على ذراعه الممتدة والمثبت فيها العلمان البريطانى والفرنسى المذكوران لمنع الأفراد من التسلق، وانتزاعهما، دلالة على استمرار سيطرتهم المعنوية على المدينة».
ديلسيبس
فعل الجنديان ذلك، فى الوقت الذى كان هناك تخطيط للمقاومة الفدائية لنسف هذا التمثال الذى شيدته شركة قناة السويس، ووفقا لمذكرات أحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس الثانى، فإن «عباس الثانى» رفع الستار عنه يوم 17 نوفمبر1899 فى بورسعيد فى حضور أولاد وبنات ديلسيبس، فى مقدمتهم زوجته وولده شارل وزوجته، وقال عباس فى كلمته: «مضى اليوم ثلاثون عاما على اليوم الذى تمكن فيع فرديناند ديلسيبس بقوة ذكائه وعالى همته من تحقيق أمنية طالما تعلقت بها الآمال قبله، وهى وصل البحرين الأبيض والأحمر، وأشكر مجلس إدارة الشركة على اتباع سنة آبائى الفخام، نحو هذا الرجل العظيم بأن أحضر بنفسى وأشارككم فى تعظيم قدرته بإقامة هذا التمثال».
وفيما كان «عباس الثانى» هو من قام برفع الستار عن التمثال، كان «يحيى الشاعر» وشقيقه «عبدالمنعم»، بطلى نسفه بعد 57 عاما.. ووفقا لرواية «يحيى»، فإن القصة تبدأ من الساعة الثامنة والربع صباح يوم الأحد 23 ديسمبر- مثل هذا اليوم -1956 ويتذكر: «كانت والدتى رحمها الله السيدة أمينة الغريب، والملازم فرج محمد فرج «ضابط اللاسلكى» المقيم فى بيتنا يجهزان مائدة الفطور، ولما فتحت الباب فوجئت باليوزباشى سمير غانم «قائد العمليات الفدائية- ضمن تشكيلات المقاومة السرية» أمامى دون موعد محدد فى اليوم السابق كعادته، وكان يحمل فى يده حقيبة مكتب سوداء صغيرة، كان وجهه يمتلئ بالسعادة، وما كاد يرانى حتى قام على غير عادته المتحفظة بمعانقتى فور مشاهدتى، فطلبت منه الدخول وأعلنت حضوره لوالدتى ولفرج، الذى استعجب أيضا لظهوره فى هذا الوقت المبكر من الصباح، وخاصة أنه لم يعد هناك داع للقلق بعدما غادر آخر جندى مدينتنا تحت ظلام مساء أمس، ما كاد فرج يرى سمير حتى علق بمرح، قائلا: «خير إن شاء الله، هما غيروا رأيهم ورجعوا تانى.. ضحك الضابطان بمرح، وطلبت والدتى من سمير مشاركتنا فى الفطور».
يضيف «الشاعر»: «فاجأنى سمير غانم طالبا الأنتحاء بى، وطلب منى التوجه للقيام بعملية خاصة ومهمة، دون أن يبوح لى بنيته، فنظر إليه فرج نظرة استفهامية فقد كان يعلم نية سمير منذ عدة أيام، عندما طلب سمير «تصريح القاهرة بالعلمية».. يصف «الشاعر» شخصية «غانم» قائلا: «كانت تتصف بالثورة والبركان الفائر»، ويتذكر: «تفادى سمير نظرات فرج.. وأفهمنى بضرورة تحركنا بسرعة، وغادرنا مسكننا فى صحبته بسيارته التى أحضرته من مكتب الإسماعيلية بعد دخول قوات البوليس للمدينة فى الأيام السابقة».
يضيف: «ما كدت أدخل السيارة وأغلق بابها حتى سلمنى حقيبة مكتب جلدية سوداء ثقيلة كان لايزال يحملها فى يده قائلا: «على بركة الله يايحيى.. إلى تمثال ديليسبس وانسفه».. يؤكد يحيى: «لم ينتظر منى جوابا.. كان ذلك أمرا عسكريا.. بدأ سمير يحرك السيارة فى اتجاه شرق بورسعيد ناحية رصيف ديلسيبس، وفى خلال الطريق، أخبرنى كيف أنه والقاهرة يشكروننى جدا لشجاعتى ونشاطاتى ووطنيتى و... و... و.... خلال الأسابيع الماضية، وأنه يفتخر بى وبالشباب أمثالى... إلخ إلخ، ثم أخبرنى بأنه اختارنى بالذات لكى أقوم بهذه العملية التاريخية اعـــترافـا منـه لى ولعائلتى بدورهم خلال تحرير أرض مصر وبورسعيد، ثم تابع حديثه مشجعا».. يعترف الشاعر: «انتفخ صدرى انبهارا وافتخارا به.. فلم أكن تجاوزت الثامنة عشرة عاما بمدى طويل.. ومازلت مراهقا.. وبدأت أتحقق مما أديناه للوطن.. ووالدتى قبلنا كلنا.. سار سمير بالسيارة تجاه الميناء.. إلى ديلسيبس وتمثاله، بينما كانت الأحداث تتوالى بشكل سريع على الرصيف».
يتذكر «الشاعر»: «دون تعليق نظرت إلى اليوزباشى سمير، ثم شكرته على ثقته فى شخصى وقلت له بأننى سأفعل ما يمكننى لتحقيق هذا الطلب، ثم أخبرته بأننى أود أن يصاحبنى شقيقى عبدالمنعم لكى نتشارك فى هذه العملية، ففكر سمير للحظات قصيرة ثم أجابنى موافقا بقوله:
«زى ماانت عايز يا يحيى، دى عمليتك وأنت حر تتصرف فيها زى ما تشوف».. وكان التنفيذ فى اليوم التالى.